للمرة الثانية خلال ست سنوات، يتعرض «إقليم كردستان العراق» («الإقليم»)، وهو الجزء من البلاد الأكثر تأييداً للولايات المتحدة، لخطر انهيار اقتصادي بسبب مزيج قاتل من انخفاض أسعار النفط، وتفشي وباء الكورونا، وإصلاحات اقتصادية غير مكتملة، ونقص الاحتياطيات السيادية. ففي النصف الثاني من عام 2014، أدى انخفاض أسعار النفط إلى النصف من 110 دولارات للبرميل إلى 60 دولاراً، إلى أن يجثو «إقليم كردستان العراق» على ركبتيه، مما أرغمه على تنفيذ استقطاع جزئي من رواتب موظفي قطاعه العام لمدة أربع سنوات إلى أن تعافى الوضع المالي للإقليم وانتعشت الأسعار العالمية بما فيه الكفاية.
وحالياً، انخفضت الأسعار مجدداً إلى النصف من حوالي 60 دولاراً للبرميل إلى أقل من 30 دولاراً، في حين تسبّب فيروس كورونا بوقف الدخل غير النفطي لـ «إقليم كردستان العراق» الذي كان ينمو بسرعة سابقاً، من الجمارك والرسوم والضرائب. والأسوأ من ذلك، قد لا يمكن عكس الانهيار الاقتصادي هذه المرة إذا فشلت حكومة «الإقليم» في اتخاذ القرارات الصحيحة بسرعة، وإذا فشل المجتمع الدولي في تقديم الدعم قريباً. وتتمتع الولايات المتحدة بدور حاسم تستطيع القيام به على كلا الجبهتين.
كيف يعمل اقتصاد «إقليم كردستان العراق» – وينهار
كحكومة إقليمية شبه مستقلة داخل العراق، يعتمد «إقليم كردستان العراق» على مصدرين للتمويل. الأول هو دخله الخاص، من صادرات النفط بشكل رئيسي، والتي تشمل حوالي 320،000 برميل يومياً تديرها بشكل مشترك شركات نفط من «الإقليم» وأخرى دولية، بالإضافة إلى حوالي 170،000 برميل يومياً يديرها «الإقليم» نفسه. أما المصدر الثاني، فهو ترتيب تقاسم العائدات السنوية مع حكومة العراق الاتحادية، والتي تختلف سنوياً في التطبيق الدقيق وتعتمد على السلامة المالية لبغداد.
وفي أواخر عام 2019، كان اقتصاد «الإقليم» يقدم أداء جيداً إلى حد ما في ظل مناهزة سعر برميل خام “برنت” حوالي 64 دولاراً للبرميل. وقد بلغ إجمالي التكاليف التشغيلية والتزامات خدمة الدَيْن حوالي 1.2 مليار دولار شهرياً، ولكن تم الوفاء بها من خلال مزيج من الدخل من مبيعات النفط المستقلة (حوالي 700 مليون دولار)، والتحويلات من بغداد (328 مليون دولار)، والدخل غير النفطي (261 مليون دولار). وبموجب ترتيب جديد بين بغداد و«إقليم كردستان العراق»، من المتوقع أن يحصل الأكراد هذا العام على دخل أكبر (يصل إلى 1.44 مليار دولار تحت أسعار النفط المرتفعة في أواخر عام 2019) حتى بعد نقل 250 ألف برميل من إنتاجهم إلى بغداد.
لكن الأزمات الحالية قضت على هذه الصورة الواعدة. فعلى الرغم من انخفاض الميزانية التشغيلية الشهرية بحوالي 950 مليون دولار، إلا أن إيرادات «الإقليم» لا تولّد سوى حوالي 648 مليون دولار، وتشمل هذه التحويلات الفيدرالية (328 مليون دولار)، والمبيعات المستقلة (270 مليون دولار)، والدخل غير النفطي (50 مليون دولار). إن العجز الشهري الناتج الذي قدره 300 مليون دولار يحفّز قادة «إقليم كردستان العراق» على التفكير في تقليص المدفوعات للمستثمرين الدوليين (والتي يبلغ مجموعها حوالي 270 مليون دولار شهرياً) كبديل لتخفيضات الرواتب واسعة النطاق التي استُخدمت لموازنة الميزانية في الفترة 2015-2019.
إنقاذ كردستان اليوم دون سحقها غداً
في ظل الأزمة [المالية]، تميل الحكومات إلى اعتبار المستثمرين الدوليين هدفاً سهلاً، لأن أصولهم عالقة ويفتقرون إلى السلطة السياسية التي يتمتع بها السكان المحليون. غير أن ثقة المستثمرين بكردستان متدنية للغاية بالفعل بسبب سلسلة من الأزمات السابقة، وهي: انتفاضة تنظيم «الدولة الإسلامية» عام 2014، ونقص المدفوعات في الفترة 2014-2015، والاستفتاء على الاستقلال الذي لم يؤت ثماره عام 2017. وحتى قبل حالة الطوارئ الحالية، كان «إقليم كردستان العراق» قد بدأ يتخلف عن تسديد دفعات مستحقة للمستثمرين في أواخر عام 2019 بسبب تجميد احتياطياته المالية في “بنك البحر المتوسط” الذي يواجه مشاكل في لبنان – وهي إشارة تحذيرية خطيرة لأن العديد من المستثمرين ملزمين بموجب القانون بالإعلان عن عدم الدفع، ويمكن أن يعاني جميعهم من تخفيضات كبيرة في سعر الأسهم وسحب التمويل.
وخلال العام الماضي، وفّر قطاع النفط الذي تُشغّله شركات دولية لـ «إقليم كردستان» نصف عائداته الشهرية (حوالي 500 مليون دولار)، أو 6 مليارات دولار سنوياً، مما جعله الصناعة الوحيدة في المنطقة على المستوى العالمي. وفي 19 شباط/فبراير، أبلغ وزير الطاقة الأمريكي دان برويليت رئيس حكومة «الإقليم» مسرور بارزاني أن قطاع [النفط] “معجزة”، وأشار إلى أن “الأكراد محاطون باليابسة، في وسط قارة، ومع ذلك تفُوقْ كميات النفط التي يصدرونها اليوم صادرات ليبيا”. وعزا هذا التقدم إلى “العمل الجيد” و”القيادة” اللذين يوفّرهما بارزاني، لكن المعجزة أصبحت في خطر تدمير الذات بعد بضعة أسابيع فقط من ذلك التصريح.
وللاستجابة لما يحصل، على «إقليم كردستان العراق» أن يعيد اعتماد المقاربة التي اتُبعت بعد انهيار أسعار النفط عام 2014، والتي كانت تقوم على المضي قدماً في الإصلاحات الاقتصادية وسط طمأنة المستثمرين في الوقت نفسه بأن «الإقليم» شريك موثوق. وواجهت الإدارة الكردية السابقة خياراً صعباً مماثلاً، وهو: مطالبة الناس بتحمّل تخفيضات الميزانية بينما كانوا يحاربون تنظيم «الدولة الإسلامية». لكن هذا بالضبط ما فعله «إقليم كردستان العراق»، وكان رد فعل الناس رائعاً. ونتيجة لذلك، عندما جاءت الأزمة التالية – خلال استفتاء عام 2017 وتداعياته اللاحقة – بقي المستثمرون في المنطقة وكانوا راغبين في تعزيز صادراتها من النفط، حتى مع فقدان 220 ألف برميل يومياً بسبب سيطرة الحكومة الفيدرالية على كركوك. ومن خلال إدارة أزمة 2014-2015 بشكل صحيح، وضع قادة «الإقليم» الأسس للصمود عند مواجهة الأزمة المقبلة والخروج منها بصورة أقوى.
أولويات السياسة الأمريكية في كردستان
من المحتمل أن «إقليم كردستان العراق» يملك الاقتصاد الأكثر ضعفاً في الشرق الأوسط – حيث لا يتمتع بالنفاذ إلى أي من احتياطيات العراق السيادية البالغة 60 مليار دولار، وهو مثقل بالديون التي قد تتجاوز 10 مليارات دولار (أو حوالي 70 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي” السنوي لكردستان)، كما أنه غير قادر على التفاوض على القروض السيادية أو حزم المساعدة. فضلاً عن ذلك، إنه أحد أقوى أصدقاء أمريكا في المنطقة، بعد أن وُلد تحت مظلة الدوريات الجوية الأمريكية وتم إدراجه في الدستور العراقي بدعم أمريكي كبير. وبناءً على ذلك، يجب على واشنطن اتخاذ الخطوات الفعالة وغير المكلفة التالية لضمان صمود «الإقليم» اقتصادياً:
ضمان مساهمة بغداد في العائدات في عام 2020. حين تحوم أسعار النفط حول 30 دولاراً تقريباً، لا يمكن لـ «إقليم كردستان العراق» تغطية تكاليفه بواسطة عمليات بيع مستقلة، ويعود السبب جزئياً إلى خصم إضافي قدره 11 دولاراً للبرميل يجب أن يتحمله عن تكاليف رسوم خطوط الأنابيب وخصومات التجار. وفي الموازاة، لم تمرر الحكومة المركزية حتى الآن ميزانيتها لعام 2020 لأنها تنتظر تعيين رئيس وزراء جديد، بحلول 16 نيسان/أبريل. ومن أجل تجنيب الأكراد ضربة مزدوجة محتملة، على المسؤولين الأمريكيين تشجيع بغداد بقوة على الاستمرار في تزويد «إقليم كردستان العراق» بالحصة الشهرية الحالية البالغة 328 مليون دولار المستحقة لميزانية 2019 (التي يتم إعادة استخدامها هذا العام على أساس تناسبي إلى أن تتم الموافقة على الميزانية الجديدة). وحالما يتم إقرار الميزانية، على واشنطن الاستفادة من نفوذها الخاص ونفوذ المؤسسات المالية الدولية لضمان عدم تعرّض الأكراد لعقوبات غير عادلة – وعلى وجه التحديد، يحتاجون إلى ما لا يقل عن 700 مليون دولار شهرياً من بغداد للتعويض عن دخلهم النفطي وغير النفطي المتضائل. يجب على المسؤولين الأمريكيين التأكد أيضاً من حصول «الإقليم» على حصته العادلة من أي حزم مساعدات اقتصادية أو مخصصة لمواجهة فيروس كورونا الممنوحة من “البنك الدولي” أو غيره من المؤسسات إلى العراق.
ضمان قيام «إقليم كردستان العراق» بدفع [المستحقات] للمستثمرين. عملت وزارة الطاقة الأمريكية بجد لدعم «الإقليم» من خلال توفير التأييد والتمويل بالأسهم لمشاريع البنية التحتية في قطاعيْ النفط والغاز، غير أن هذه العلاقة ستتدهور إذا توقف الأكراد عن دفع المستحقات للمستثمرين. على الوزارة الأمريكية إبلاغ المسؤولين في «الإقليم» على الفور بأن خطتهم الحالية – أي تأجيل دفعات أربعة أشهر متأخرة لمدة تسعة أشهر أخرى على الأقل – ستقضي على ما تبقى من ثقة المستثمرين. وعوضاً عن ذلك، يتعين على قيادة «إقليم كردستان العراق» عقد اجتماع مع المستثمرين عبر الهاتف عن بُعد، وعلى الفور للتفاوض على اتفاق لإرجاء الدفعات بالتراضي، بدلاً من تقديم قرض مفروض إلى «الإقليم» خاص بقطاع الطاقة. إن التحرك سريعاً أمر أساسي؛ فانهيار مستثمر واحد فقط سيؤدي إلى إخافة الآخرين.
المساعدة على استبدال الديزل المستورد بالغاز الكردي. إن وزارة الطاقة الأمريكية في وضع جيّد يخوّلها دعم خطط «إقليم كردستان العراق» الرامية إلى توسيع نظامها لتوزيع الغاز الطبيعي ليشمل محطات الطاقة التي لا تزال تعمل على الديزل المستورد الباهظ الثمن. ومن شأن هذه الخطوة وحدها أن توفّر للأكراد عشرات الملايين من الدولارات شهرياً وتزيد توافر الكهرباء بمقدار 750 ميغاواط بتكلفة قليلة. ويمكن للأنبوب نفسه تصدير الغاز إلى تركيا في المستقبل.
شراء النفط الكردي. يقوم احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي بشراء النفط بأسعار منخفضة حالياً، وفي حين تأتي معظم هذه المشتريات من منتجين أمريكيين، إلا أن هناك مجالاً لشراء بعضها من الخارج. على سبيل المثال، يمكن لواشنطن شراء بعض الخام الكردي كشكل من أشكال القروض الميسّرة في هذه الأوقات الحرجة.
دعم “البيشمركة”. تقدّم الولايات المتحدة حالياً 17 مليون دولار شهرياً إلى قوات الأمن في «إقليم كردستان العراق» التي تحارب كلاً من تنظيم «الدولة الإسلامية» وفيروس كورونا. غير أن هذه المساعدة انخفضت من 23 مليون دولار في العام الماضي ومن المزمع أن تتوقف كلياً في نيسان/أبريل. وبدلاً من ذلك، على واشنطن الإبقاء على المساعدة طالما دعت الحاجة إليها وزيادتها من جديد إلى مستوى عام 2019.
المساعدة على استعادة الأصول من “بنك البحر المتوسط”. يبدو أن لـ «إقليم كردستان العراق» ما يصل إلى مليار دولار من الأصول المجمّدة في هذا المصرف اللبناني – وهو مبلغ يمكن أن يؤدي في حد ذاته إلى تغيير النظرة الاقتصادية للإقليم على المدى القريب. وكَوْن الولايات المتحدة مستثمراً رئيسياً وجهة فاعلة في مجال الخدمات المالية، فقد تتمكن من تسريع وتيرة عملية الاسترداد.
طمأنة بارزاني وتوجيه دفة إصلاحات. إن رئيس وزراء «إقليم كردستان العراق» ملتزم بإجراء إصلاحات اقتصادية، ولكن الحكومة السابقة قوّضت هذا الجهد منذ البداية على نحو مثير للجدل من خلال تخفيفها القيود على تخفيضات الرواتب في نهاية فترة ولايتها، مما يكبد الحكومة الجديدة تكاليف شهرية تناهز قيمتها 200 مليون دولار. إن تعامل بارزاني الفعال مع فيروس كورونا يسلط الضوء على قدرته القوية كمصلح اقتصادي، كما أن الحاجة إلى خفض الرواتب والمخصصات تمثّل اختباره الأول. يتعين على الحكومة الأمريكية الترحيب بهذه الجهود بحرارة، والضغط على الجهات الفاعلة الكردية الأخرى في السليمانية وأربيل ودهوك لتدعم علانية جميع تدابير التقشف التي أمر بها بارزاني بدلاً من استغلال الوضع لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة النظر.
وسيكون لكل هذه المساعدة فائدة إضافية مهمة، وهي: زيادة النفوذ الأمريكي في وقت لا ترغب فيه قيادة «إقليم كردستان العراق» بدعم رئيس وزراء الحكومة الاتحادية المعيّن عدنان الزرفي. ومن شأن الالتزام الكردي بدعم الزرفي أن يساعد العراق إلى حدّ كبير – ويساعد «إقليم كردستان» على الصمود، لأن رئيس الوزراء الجديد سيكون له دور أساسي في إقرار الميزانية المقبلة. وإذا ما فشلت هذه المقاربة وتضاءلت المشاركة في العائدات، فلن يكون أمام واشنطن الكثير مما يمكن أن تفعله لمساعدة اقتصاد «إقليم كردستان العراق».
مايكل نايتس
معهد واشنطن