في الأسابيع القليلة الماضية خضع «حزب الله» لمراقبة جدّية من قبل الشعب اللبناني. فبإيعاز من الحزب، واصلت الحكومة اللبنانية السماح بوصول رحلات جوية من إيران المنكوبة بفيروس كورونا حتى منتصف آذار/مارس، على الرغم من دعوات شخصيات من المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية لتعليقها. وحتى بعد إغلاق مطار [بيروت] رسمياً أمام جميع الرحلات الجوية، كشفت تقارير إعلامية عن استخدام «حزب الله» لوسائل غير رسمية لمواصلة جلب الأشخاص من إيران. ووسط ارتفاع عدد المصابين بحالات “كوفيد-19” في لبنان، وجه الناس أصابع الاتهام إلى «حزب الله» متسائلين عما إذا كان يمنح الأولوية للنظام الإيراني ويفضله على ابناء بلده.
ولم يرد «حزب الله» على هذه الاتهامات، وبدلاً من ذلك أطلق خطة طوارئ صحية في 25 آذار/مارس. وصرّح رئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين للمراسلين: “إنها حرب حقيقية يجب أن نواجهها بعقلية المُحارب… فوظيفتنا أن نتكامل مع الأجهزة الحكومية لا أن نحل محلها”. وبموجب الخطة، سينشر «حزب الله» ما مجموعه 25000 فرد للتعامل مع الأزمة، بما في ذلك 1500 طبيب و 3000 ممرض/ممرضة. بالإضافة إلى ذلك، خصص إحدى مستشفيات بيروت التي يملكها لمعالجة مرضى “كوفيد 19” واستأجر أربعة مستشفيات خاصة غير مستخدمة، وجهّز 32 مركزاً طبياً في جميع أنحاء لبنان، ووضع خططاً [لإقامة] ثلاثة مستشفيات ميدانية إذا لزم الأمر. وحتى استأجر فنادق لاستخدامها في الحجر الصحي، وفقاً لصفي الدين.
لكن ما لم يذكره هو الأزمة الخفية التي دفعت «حزب الله» إلى إطلاق هذه الخطة حالياً. وكالعادة، بدا الحزب أكثر استعداداً من الدولة اللبنانية للتعامل مع حالات الطوارئ، ولكن لا يمكن معالجة المشاكل القائمة سابقاً عبر وضع المزيد من الأطباء في الخدمة.
قضايا خفية
تشير مصادر غير رسمية إلى أن عدد المواطنين اللبنانيين المصابين بفيروس كورونا أكبر بكثير مما تُبلِغ عنه الحكومة، لا سيما داخل المجتمع الشيعي الأساسي لـ «حزب الله». ويبلغ العدد الرسمي حالياً 470 إصابة، لكن مقالة نشرتها صحيفة “الغارديان” مؤخراً ذكرت أن “بعض مناطق لبنان والعراق بشكل خاص تضم على الأرجح آلاف المصابين الإضافيين… ويشكل [عدم] الكشف عنها خطراً صحياً إقليمياً خطيراً خلال الأشهر الثلاثة القادمة”. ويستشهد التقرير بعدد من المسؤولين اللبنانيين الذين ذكروا أن «حزب الله» قد عزل أحياءً في العديد من البلدات الجنوبية ووضع حراسه خارج هذه المناطق. وبالفعل، كان الحزب يحاول إخفاء الواقع منذ أسابيع، لكن لم يعد من الممكن قمع الحقيقة حيث يموت المزيد من الناس وينتقل آخرون إلى أماكن غير معلنة.
وبالإضافة إلى القلق من أن تسريب المزيد من أسرار الحزب قد يضر بسمعته، خشي «حزب الله» أيضاً من أنه لا يملك موارد كافية للتعامل مع تفشي المرض بشكل كبير. وفي النهاية، لا يستطيع الأطباء والممرضين/الممرضات والعيادات عمل الكثير إلا إذا كانوا يفتقرون إلى المعدات والأموال الطبية. وأدرك الحزب أنه بحاجة إلى المساعدة، وأنه لن يحصل عليها قبل أن يعترف بالحقيقة. ومن هنا جاءت استراتيجيته الجديدة لإصلاح صورته من خلال الإعلان عن خطة طارئة – ليس كتدبير وقائي للتعامل مع الارتفاع المحتمل في الحالات، بل كإجراء يائس حالياً بعد أن بدأت الأمور تخرج فعلاً عن نطاق سيطرته وتتجاوز قدرة حملته الوقائية السرية.
العامل الايراني
كما ذُكِر أعلاه، فإن الحكومة المدعومة من «حزب الله» لم تغلق البلاد حقاً. على سبيل المثال، بعد يوم واحد من إغلاق مطار بيروت رسمياً، هبطت فيه طائرة قطرية كانت في طريقها من طهران. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو المعابر الحدودية اللبنانية مع سوريا البالغ عددها 115 معبراً، والتي لا يزال يتم من خلالها تهريب أعداد لا حصر لها من الأشخاص والعتاد من قبل العديد من الجهات الفاعلة.
وبالطبع، لطالما كانت الحكومة تواجه مشاكل للسيطرة على هذه المعابر. فالقيام بذلك قد يتطلب تعبئة كثيفة لـ”القوات المسلحة اللبنانية” (“الجيش اللبناني”) وتغييراً جذرياً في ذهنية القبول الواسع النطاق للتهريب. ومع ذلك، لا توجد مؤشرات على أن التغيير قادم، ولا يبدو أن «حزب الله» قادراً على وقف تدفق الأشخاص حتى لو أراد ذلك.
ومع استمرار الأشخاص في دخول البلاد عبر قنوات غير رسمية، قد يكون أي منهم حاملاً للفيروس، ومن المحتمل أن يسعى القليل منهم للاختبار أو العلاج من خلال القنوات الرسمية. فبعضهم – سواء إيرانيين أو عناصر من الميليشيات المدعومة من طهران – سينتهي بهم المطاف حتماً في المراكز الطبية التابعة لـ «حزب الله»، حيث سيشغلون الأَسِرّة ويستعملون المعدات التي يحتاجها المواطنون المحليون بشدة. إن لبنان بلد صغير جداً من أن يتمكن بعد الآن إخفاء هذا التدفق من الإيرانيين وغيرهم من الأجانب، لذلك يحاول «حزب الله» تجاوز العواقب السياسية المحتملة من خلال إظهاره المبادرة.
استغلال حالة الطوارئ
بينما يتولى فيروس كورونا الخطاب العام في لبنان، يضغط «حزب الله» أيضاً بسرّية لفرض إرادته على مختلف القرارات السياسية والاقتصادية والقانونية القادمة. وتركز هذه الجهود على التلاعب في التعيينات القضائية والمصرفية، وحماية الحلفاء من اتهامات الفساد، وقمع السخط داخل دائرة الحزب.
على سبيل المثال، على الرغم من عدم استطاعة سياسيي «حزب الله» أنفسهم شغل العديد من المناصب الحكومية بسبب التهديد بفرض عقوبات دولية، إلّا أن الحزب يحاول تمكين المرشحين المتحالفين معه خلال النقاش الحالي حول التعيينات المالية التي من المتوقع عرضها خلال جلسة مجلس الوزراء القادمة هذا الأسبوع. ويشمل هؤلاء نواباً رئيسيين لـ “حاكم مصرف لبنان” وأعضاء “لجنة الرقابة على المصارف” في البلاد. ووفقاً لموقع “يا لبنان”، أصدر سعد الحريري وغيره من رؤساء الوزراء السابقين بياناً مشتركاً نددوا فيه “بمحاولات احتكار مناصب الدولة”. وبالمثل، تستغل سلطات «حزب الله» الإجراءات الأمنية المتعلقة بالفيروس التاجي لاعتقال النشطاء الذين شاركوا في تنظيم الاحتجاجات في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
دور “الجيش اللبناني”
في الأسبوع الماضي ازداد التوتر السياسي في لبنان بسبب الجدل حول ما إذا كان ينبغي إعلان حالة الطوارئ. وبدلاً من ذلك اختارت السلطات اتخاذ إجراءات “تعبئة عامة”.
ومن الناحية الدستورية، تعني حالة الطوارئ أنه قد يتم نقل السيطرة على لبنان إلى “الجيش اللبناني”، في حين تعني “التعبئة العامة” أنه سيتم اعتماد إجراءات مماثلة دون تمكين “الجيش اللبناني” من فرضها على الصعيد الوطني. وتشمل هذه زيادة دوريات الأمن الداخلي، وإغلاق الأعمال غير الضرورية، وتشديد قيود السفر، وإغلاق جميع الحدود البرية والبحرية والجوية (رسمياً على الأقل).
ومن الواضح أن «حزب الله» لن يرحّب بالخطوات التي تُمكّن “الجيش اللبناني”، لأن ذلك سيزوّد قادة الجيش بصلاحية السيطرة على مؤسسات الدولة ووضع القوات في جميع نقاط الدخول. وإذا تم تنفيذ هذه الإجراءات بشكل صحيح، فقد تعرقل عمليات تهريب الأسلحة والإمدادت الإيرانية التي يقوم بها «حزب الله» – وهي مخاطرة يفضل الحزب عدم الإقدام عليها.
وفي الوقت الحالي، لا يتخذ “الجيش اللبناني” أي مبادرة بشأن هذه الأزمة رغم حصوله على مساعدة أمريكية كبيرة، في حين لم تتخذ مؤسسات الدولة الأخرى سوى خطوات بسيطة، مكررة فشلها في معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة القائمة منذ أشهر. وفي هذا السياق، هناك منشأة طبية عامة كبيرة واحدة فقط – “مستشفى رفيق الحريري الجامعي” – التي تفتح أبوابها أمام مرضى فيروس كورونا، وهي بالكاد تعمل بكفاءة. ويشكو موظفو الصحة العامة من نقص في المعدات والموظفين والرواتب، وتفتقر الدولة إلى التمويل لسد هذه الاحتياجات بمفردها.
بالإضافة إلى ذلك، كانت التعبئة العامة غير فعالة حتى الآن – فالعديد من الناس يرفضون البقاء في منازلهم، كما تتزايد الدعوات لإعلان حالة الطوارئ حتى في أوساط حلفاء «حزب الله». على سبيل المثال، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري، “أطالب بحالة طوارئ فورية وسريعة لأن الوضع لا يحتمل”. وشبّه أيضاً جهود التعبئة الحالية بـ “حالة طوارئ لايت (خفيفة)”.
أما أولئك الذين يعارضون مثل هذا الإعلان فلديهم سبب وجيه للقلق، لأن ذلك يمكن أن يفتح الباب أمام استخدام قمع واسع النطاق لحرية التعبير. ومع ذلك، هناك حل وسط من شأنه أن يمنح “الجيش اللبناني” المزيد من المسؤولية دون تعريض الحريات للخطر، وهو: حالة طوارئ طبية. وقد يسمح ذلك للجيش بتفعيل عياداته الخاصة (المتواجدة في جميع أنحاء لبنان ولكنها لا تعمل بكامل طاقتها في الوقت الحاضر)، وإعداد طاقمه الطبي بالكامل لمواجهة الوباء، وفرض المزيد من السيطرة على الحدود، وإن كان ذلك فقط من حيث وقف الدخول غير القانوني للأشخاص الذين ربما يحملون المرض (لأنه ليس من الواقعي الحدّ من تهريب «حزب الله» للعتاد في هذه المرحلة).
ولطالما ساعدت الولايات المتحدة “الجيش اللبناني” وقدمت له التدريب لمواجهة أعمال التمرد والإرهاب، غير أن فيروس كورونا يقدّم فرصة استثنائية لقادة الجيش لإظهار قدرتهم على تولي المسؤوليات الوطنية التي كلّفهم بها الدستور فعلاً. وكبديل لذلك، إذا بقي “الجيش اللبناني” على الحياد خلال انتشار هذا الوباء، فسيستمر معسكر «حزب الله» في سدّ الثغرات في شرعيته المحلية من خلال السعي إلى معالجة الأزمة بنفسه – ربما بمساعدة مؤسسات خارجية ترغب في التغاضي عن العقوبات ومساعدة الحزب في جهوده في ظل الظروف الصعبة داخل لبنان.
وفي الأشهر الأخيرة حثت واشنطن “الجيش اللبناني” وبحق على حماية المحتجين اللبنانيين. وتمثل الفترة الراهنة فرصة أخرى لدفع الجيش إلى القيام بمهمته المتمثلة بحماية الشعب – وهذه المرة من خلال تولي مسؤولية الطوارئ الطبية.
حنين غدار
معهد واشنطن