الربع الأخير من العام الإيراني 1398 والربع الأول من عام 2020 لم يكن عام يمن وبركة لإيران ونظامها، فمع الأيام الأولى للشهر الأول لهذا العام، أُصيب المشروع الإيراني في الإقليم بنكسة قاسية زعزعت قبضته على المنطقة، عندما استهدفت طائرات أميركية في الدقائق الأولى من فجر يوم الثالث من يناير (كانون الثاني)، قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإسلامية الجنرال قاسم سليماني، مخرجةً رأس المشروع الإيراني في غرب آسيا من المعادلة. وبعد أيام قليلة، تلقّى النظام ضربة أخرى قاسية عندما تحوّلت عملية الردّ على اغتيال سليماني باستهداف قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق إلى مأساة إنسانية بسبب خطأ ارتكبه أحد ضباط سلاح الصواريخ لحرس الثورة، أدى إلى إسقاط طائرة مدنية أوكرانية أقلعت من مطار طهران، ما أسفر عن مقتل كل ركابها، وكشف عن حجم التوتر والإرباك الذي تعيشه المؤسستان السياسية والعسكرية الإيرانيتان وحجم الاسنتفار الذي تمرّ به خوفاً من أي تحرك أو ضربة أميركية وما يتبعها من تداعيات دراماتيكية محتملة على النظام واستقراره.
ولم يكد النظام الإيراني يلتقط أنفاسه جراء هذين الحدثين، وينتقل إلى توظيف الحالة الشعبية التي راففت تشييع سليماني بوصفه “بطلاً قومياً” في الانتخابات البرلمانية، حتى كشف عن انتشار وباء كورونا قبل يوم واحد من موعد الانتخابات في العشرين من شهر فبراير (شباط) ومن مدينة قُمّ تحديداً، لتبدأ معه حلقة جدل ونقاشات حول دور النظام في التكتم عن وجود هذا الوباء من أجل تمرير الانتخابات، وبين مسؤولية حكومة حسن روحاني في التقليل من خطورة هذا الوباء والتقصير في المبادرة لمواجهته واتخاذ الإجراءات الكفيلة للحدّ من تحوّله إلى “كارثة وطنية”.
وإذا كانت للحدثين الأولين تداعيات سياسية، فإنّ “الجائحة” التي تسبّب بها انتشار وباء كورونا المستجد أو “كوفيد -19″، أدخلت النظام الإيراني والسلطة التنفيذية، كما كلّ حكومات وأنظمة العالم، أمام تحدي الانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية وقطع الطريق على تأثيراتها السياسية المستقبلية، إلّا أنّ ما يشكّل نقطة افتراق بين طهران والحكومات الأخرى في العالم، ما تواجهه من أزمات اقتصادية متراكمة بسبب العقوبات الأميركية وعدم قدرتها على تجاوز الضوابط التي وضعتها واشنطن، في محاولة للحدّ من الآثار السلبية، خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية، لهذا الوباء، واستغلال فرصة التعاطف الدولي لكسر حلقة العقوبات والدفع بالعواصم الدولية إلى التمرد على القرارات الأميركية وفتح كوّة في جدار العقوبات تسمح بحصول طهران على جزء من عائداتها النفطية أو تجبر واشنطن على تعليق العقوبات أو رفع التجميد عن بعض الأرصدة الإيرانية في الخارج بذريعة الحاجة إلى استيراد المواد الغذائية والطبية والأدوية. ولعلّ هذا ما يفسّر الحركة الدبلوماسية والإعلامية التي قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف باتجاه بعض العواصم الأوروبية والحديث عن “إرهاب طبّي” تارةً، و”إرهاب صحّي” تارةً أخرى، تمارسه واشنطن ضد الشعب الإيراني وتحدّ من قدرته على مواجهة الوباء وتمنع عنه الاستفادة من توظيف أموال البلاد المجمّدة في الخارج. وهو تحرّك جاء بعد موقف المرشد الأعلى من الكلام الأميركي عن الاستعداد لتقديم المساعدة لإيران في مواجهة كورونا، عندما شكّك بنوايا “العدو الأميركي”، مطالباً بالمقابل برفع العقوبات بالكامل.
لم يبدُ أنّ الإدارة الأميركية تعير اهتماماً بحراك ظريف ومواقف النظام والحكومة، خصوصاً وزير الخارجية مايك بومبيو الذي كان واضحاً في موقفه الذي حدّد الهدف الأميركي من استمرار التمسك بالعقوبات وفرض المزيد منها في خضم أزمة كورونا، عندما تحدث عن احتياط مالي كبير يتحكّم به مرشد النظام يجب أن يُستنفّد، لأنّه يشكّل ولا يزال خط الدفاع الأساس للنظام بوجه العقوبات المشدّدة التي فرضها البيت الأبيض، ويقصد بذلك “الصندوق القومي للتنمية” الذي يملك عشرات المليارات من الدولارات، في ظل غياب أرقام رسمية دقيقة حول موجوداته المالية.
يُعتبر “الصندوق القومي للتنمية” من الصناديق السيادية في النظام الإيراني والبديل الذي لجأ إليه لإيداع جزء من عائدات النفط لتوظيفها واستثمارها للأجيال المقبلة على غرار عددٍ كبيرٍ من الدول المنتجة للبترول، وذلك بعد فشل التجربة السابقة التي لجأ إليها عام 2009 في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بعنوان “حساب الاحتياطي من العملة الصعبة”، الذي تحوّل مع الأخير إلى وسيلة لتغطية فشل كل السياسات الاقتصادية التي اتّبعتها حكومته وحوّلت النظام الاقتصادي إلى نظام ريعي غير منتج من خلال اللجوء إلى سياسة المساعدات المباشرة للطبقات الفقيرة وتوزيع المال، فضلاً عن فتح الباب أمام القروض المفتوحة والكبيرة، وصلت قيمتها إلى مليارات الدولارات ولم تُستثمر في مشاريع تنموية – على الرغم من عنوانها – بل ذهبت لصالح أفراد استطاعوا بناء إمبراطوريات مالية وتسهيل عمليات اختلاسات كبيرة وشراء عقارات بمشاركة المنظومة البنكية التي أسهمت في هذه الاختلاسات، الأمر الذي أدى إلى إنفاق كل الادّخارات التي وفّرتها حكومة الرئيس محمد خاتمي التي حققت أكثر من 700 مليار دولار كدخل من عائدات النفط في عهده. بالتالي، أدت إلى استلام حسن روحاني لسلطة تنفيذية تعرّضت منظومتها المالية والاقتصادية والإدارية لتخريب كبير ومنظم من قبل فريق أحمدي نجاد الذي ألغى دائرة التخطيط والموازنة في الحكومة التي تُعتبر المؤسسة الأعرق والأساس في تاريخ إيران الحديث، ما سمح لأحمدي نجاد بالإطباق على وزارة النفط والتحكّم بعائداتها المالية واستخدامها في توزيع الهبات المالية في زياراته إلى المحافظات تحت تهديد إقالة الوزير في حال اعترض على ذلك، كما حصل مع الوزير كاظم وزير هامانه، في حين لجأ خلفه مسعود مير كاظمي إلى إحداث تغييرات بنيوية في هيكلية الوزارة بما يتوافق مع سياسات أحمدي نجاد وأهدافه من خلال استبعاد كل المدراء فيها واستبدالهم بموالين للحكومة التي يمثّلها.
إلاّ أنّ التدهور الذي أصاب حجم الودائع في هذا الحساب دفع قيادة النظام إلى اتخاذ إجراءات جديدة بدأت بتغيير اسمه إلى “الصندوق القومي للتنمية” ولم تنته بالضوابط وشروط اللجوء إليه وآليات عمله وإخراجه من دائرة سيطرة السلطة التنفيذية لصالح سلطة المرشد الأعلى للنظام الذي يملك الحق والكلمة الأخيرة في أي قرار يتعلّق بتوظيف موجودات هذا الصندوق.
وإذا ما تجاوزنا الكلام الذي صدر عن رئيس البنك المركزي الإيراني السابق ولي الله سيف حول موجودات هذا البنك في الفترة التي أعلنت فيها الإدارة الأميركية الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض العقوبات الاقتصادية، والتي قدّرتها حينها بأنها قد تصل إلى ما يزيد على 100 مليار دولار، والكلام غير الرسمي من بعض الخبراء الاقتصاديين بأنها قد تتراوح بين 110 و120 مليار دولار، فإنّ التقديرات الحالية تذهب إلى أنّ هذه الموجودات التي دخلت إلى الصندوق منذ عام 2011 تصل إلى نحو 91 مليار دولار، حسب ما أُدرج على الموقع الرسمي لهذا الصندوق، والتي تدخل فيها مصادر الاستثمار والقروض وفوائدها والعملات الورقية أو المعادن القابلة للتسييل بسهولة، إلى جانب ما استطاعت إيران الحصول عليه من عائدات النفط من دون حساب إيداعاتها في البنوك الخارجية في السنوات التي تلت رفع العقوبات وتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، إذ كانت هذه العائدات تُقدَّر بنحو 208 مليار دولار سنوياً. أما ما وُظّف من هذه الموجودات منذ التأسيس حتى عام 2018، فقد بلغ نحو 70 مليار و200 ألف دولار موزّعة على 37 مليار و700 ألف دولار، قروض بالعملة الصعبة للمؤسسات الرسمية والتعاونية، و25 مليار و300 ألف دولار للحكومة للمشاريع السيادية، و7 مليار و200 ألف دولار كودائع بالعملة الصعبة تُستخدم من قبل البنوك لمساعدة القطاعات الصناعية، وذلك حسب البيانات الرسمية للصندوق.
وقد فتح روحاني الأعين على موجودات هذا الصندوق بعد قرار المرشد اللجوء إليه عندما سمح بسحب نحو 2 مليار ونصف المليار دولار لزيادة الميزانية العسكرية للقوات المسلحة ومواجهة الأزمة البيئية التي تعرّضت لها إيران جراء موجة الجفاف والغبار والأتربة التي ضربت المحافظات الجنوبية والجنوبية الغربية من خوزستان إلى سيستان وبلوشستان في صيف 2018، عندما أمر المرشد الأعلى باستخدام مليار ونصف المليار دولار لمواجهة نتائج هذه الأزمة والتعويض على المواطنين وتنفيذ مشاريع بنى تحية وإنمائية في هذه المناطق.
وبعد موجة الأمطار الغزيرة والسيول خريف 2019 التي تعرّضت لها محافظات إيرانية عدّة والخسائر المادية والاقتصادية التي نتجت منها، حاول روحاني تكرار عملية اللجوء إلى هذا الصندوق، إلاّ أنّه تعرّض لتقريع من المرشد الذي أجاب عن طلب روحاني برسالة قاسية، مشيراً إلى ضرورة أن تلجأ الحكومة لاستنفاد كل الإمكانات التي تمتلكها وتحريك بنود الميزانية لمواجهة هذه الأزمة قبل اللجوء إلى استخدام الاحتياطي المالي في هذا الصندوق.
وما دفع بومبيو إلى الاشارة للمدّخرات التي يمتلكها النظام، كان الطلب الذي توجّه به روحاني إلى المرشد الأعلى باستخدام مليار دولار من هذا الصندوق لمواجهة تداعيات أزمة كورونا على الاقتصاد الإيراني وعلى الطبقات الفقيرة والمتضرّرة من جراء التعطيل الذي فرضته هذه الجائحة على قطاعات عدّة.
روحاني بين كورونا وأسعار النفط
تعلّق أوساط إيرانية مقرّبة من حكومة روحاني على أزمة كورونا بالقول “عطست الصين، فمرض الاقتصاد العالمي”، ولعلّ ما حدث جراء كورونا يُعتبر أكبر تحدٍّ وأزمة اقتصادية يواجهها العالم بعد الأزمة المالية عام 2008، وقد تأثرت فيه كل الدول، ولم تكن إيران مستثناة من تداعيات هذا الوباء على جميع الصعد والمستويات، خصوصاً الجانب الاقتصادي الذي يعاني من العقوبات وقرارات مجموعة FATF التي رفض مجمع تشخيص مصلحة النظام الانضمام إليها لمحاربة تمويل الإرهاب على الرغم من إقرارها في الحكومة والبرلمان، إضافةً إلى أنّ حكومة روحاني قدمت ميزانية للدولة لا تعتمد على النفط التزاماً منها بالشعار الذي رفعه المرشد لمواجهة العقوبات الأميركية، وخفّضت حصة النفط في هذه الميزانية إلى حدود 50 في المئة، إلاّ أنّها ومع التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، اصطدمت أيضاً بأزمة انخفاض أسعار النفط وتدنّيها إلى ما دون الـ20 دولاراً للنفط الإيراني، ما عقّد الأمور على هذه الحكومة ووضعها أمام تحديات تأمين موارد ضرورية لتسيير الدولة التي يتجاوز عدد جسمها البشري أربعة ملايين موظف، فضلاً عن تلبية حاجات ومتطلبات الإجراءات الوقائية للحدّ من انتشار الوباء وما يتطلّبه من تقديم مساعدات مالية وعينيّة للأفراد والمؤسسات المتضررة من هذه الإجراءات والتي يصل عددهم في التقديرات الأولية إلى نحو أربعة ملايين شخص، إضافةً إلى تقديرات بأن يتجاوز حجم التضخم في الاقتصاد الإيراني عام 2020 نسبة 40 في المئة، في حين أن تقديرات رئيس البنك المركزي عبد الناصر همتي بأن يكون التضخم في حدود 35 في المئة وإمكانية تخفيضه إلى حدود 20 إلى 25 في المئة في نظرة تفاؤلية في حال استطاعت الحكومة اعتماد سياسة تقشّفية وتأمين الموارد لسدّ عجز الميزانية.
من هنا، كان لا بد للحكومة من تحديد القطاعات الأكثر تضرّراً اقتصادياً، ووضعها على أولويات الإجراءات الاقتصادية التعويضية والاحتوائية، وقد استطاعت هذه الحكومة تحديد عشرة قطاعات أساسية تشمل القطاعات الغذائية والمقاهي والمطاعم والمراكز السياحية والفنادق وقطاع النقل العام البري والجوي والبحري ومكاتب السفر والسياحة وقطاع صناعة الألبسة وقطاع صناعة الأحذية والحقائب وقطاع تجارة المكسّرات والحلويات وقطاع المجمعات الرياضية والتسلية وقطاع المراكز الثقافية والتعليمية وقطاع الصناعات اليدوية.
وفي إطار مواجهة هذه التداعيات، أقرّت الحكومة الإيرانية أيضاً، رزمة مساعدات لنحو 3 ملايين إيراني من الطبقات الفقيرة بنحو 10 آلاف مليار تومان ( السعر الرسمي للصرف مقابل الدولار 4200 تومان)، إضافةً إلى قروض ميسّرة بفائدة تصل إلى 12 في المئة لنحو مليون شخص تتحمّل الحكومة 8 في المئة منها على أن تستقطع القيمة المتبقية 4 في المئة من المساعدة المالية التي تقدمها الحكومة بمبلغ لا يتجاوز 80 ألف تومان في الشهر مع مدة سماح 3 أشهر لبدء السداد، وذلك حسب ما أعلنه روحاني بعد اجتماع خليّة الأزمة الحكومية لمواجهة تداعيات كورونا.
حسن فحص
اندبندت عربي