في أيام الكوارث والحروب واللايقين تكثر الأسئلة وتقل الأجوبة. أسئلة واقعية قلقة، وأجوبة نظرية افتراضية، ترافقها طموحات ومبالغات في تصور التغيير الذي صار مفروضاً بقوة الأشياء بعدما كان مرفوضاً أو أقله صعباً بسطوة المصالح.
ومع أن قضايا الإنسان في زمن كورونا تتقدم على قضايا الأنظمة، فإن ما يتركز عليه التفكير والنقاش في عزلة العالم هو ثلاثة أسئلة كبيرة: أي نظام سياسي في مرحلة ما بعد كورونا: ديمقراطي أم سلطوي؟ أي نظام اقتصادي: رأسمالية ليبرالية بعد فشل النيوليبرالية أم عودة إلى نوع من الاشتراكية بعد سقوط النموذج السوفياتي في نهايات القرن الماضي؟
وهل هناك مجال لتغيير راديكالي يقلب كل شيء أم أن الممكن هو عمليات تجميل للأنظمة القائمة وسد الثغرات والنواقص التي ظهرت في مواجهة الوباء؟
قبل كورونا سجل العالمان السياسيان ستافان ليندربرغ وآنا لوهران في دراسة “عودة 75 بلداً إلى الوراء في المسار الديمقراطي، وبداية ارتفاع موجة أوتوقراطية كونية في بلدان أقل ديمقراطية وأكثر سلطوية”.
وقبل هذه الدراسة وسواها ارتفعت أصوات كثيرة تناقش تحديات الديمقراطية البرلمانية بحسب النموذج البريطاني، وتشكو من أن التمثيل الشعبي لم يعد يكفي لمعالجة الواقع الشعبي. إذ يمتنع نصف الناخبين تقريباً عن ممارسة حقهم الانتخابي.
وبالتالي يتولى الحكم حزب حصل على أقل من 50 في المئة من الذين أدلوا بأصواتهم، أي نحو ربع الناخبين.
وفي مواجهة كورونا ظهرت عيوب في أداء الأنظمة الديمقراطية كما في استعدادها وأولويات المشاريع والمسائل التي تشغلها. أبسط ما انكشف هو خطورة التخلي عن “دولة الرعاية” وعجز القطاع الخاص عن تلبية الحاجات، وفقدان التضامن الإنساني حتى بين البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. حيث قلّت مساعدة إيطاليا وإسبانيا في الحمل الثقيل، وجاءت المساعدة من الصين وروسيا.
قبل كورونا كان النموذج الشمولي الصيني مع الرئيس شي جيبينغ ، والروسي مع الرئيس فلاديمير بوتين محل أعجاب في أوساط أوروبية وأميركية وعالمثالثية.
الأول بسبب النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي ومشروع “الحزام والطريق”، والثاني بسبب قدرته على العودة إلى دور القوة العالمية في أوروبا وآسيا وأفريقيا.
وما كان الرئيس دونالد ترمب المسؤول الوحيد في نظام ديمقراطي الذي يتمنى أن يمارس السلطوية ويصبح رئيساً إلى الأبد.
وفي مواجهة كورونا ازداد الإعجاب بالصين التي تمكنت بسرعة معقولة وكفاية من محاصرة الوباء الذي كانت بدايته في ووهان، ومن ثم في إرسال الكمامات والآلات الطبية إلى أكثر من بلد.
لكن ذلك يتجاهل أمرين: أولهما أن الأنظمة الشمولية والسلطوية تخفي الكوارث في البداية ولا تعترف بوقوعها إلا بعد أن تكبر وتتسع.
هكذا فعلت الصين بإجبار الطبيب الذي اكتشف الوباء على الصمت، وأخفت الانتشار خلال شهر كامل.
وهكذا فعل نظام الملالي في إيران لئلا تؤثر أخبار الوباء في توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
والأخطر هو أننا في عصر التحول نحو ما تسمى “السلطوية الديجيتالية”.
فالسلطة في الصين تراقب بالتكنولوجيا المتطورة كل إنسان وأين يذهب ومع من يتحدث وما هي ميوله السياسية وهذا أكثر مما تخيله جورج أورويل في رواية “1984” عن سيطرة “الأخ الأكبر”.
والثاني أن النظام الديمقراطي يساعد على اكتشاف الخطأ والخلل وإجراء التصحيح. وهو إن كان بطيء الحركة في البدء، فإنه يستدرك ويتحرك بسرعة ومهارة في المعالجة، فضلاً عن أنه النظام الملائم لطبائع البشر والمجتمعات.
أما النظام الاقتصادي المفترض بعد كورونا، فإن النقاش حوله يتركز على نموذجين معروفين: يرى جوزف ستغليتز الحائز جائزة نوبل للاقتصاد “أن المشكلة ليست الرأسمالية بل المصالح الخاصة المكرسة للاحتكاريين والمصرفيين، والحل في العودة إلى الرأسمالية المنسقة”. وتوماس بيكيتي صاحب “رأس مال والإيديولوجيا” بعد كتاب “رأس المال في القرن 21” يقول “إن المطلوب ليس الاشتراكية بل التغلب على الرأسمالية، مع الحفاظ على الملكية ورأس المال، لوصول ثمارهما إلى الشعب تحت”.
أما الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، فإنه يتحدث عن “مرحلة ثالثة من الشيوعية” بعد “اختراعها في الأولى” و “اختبارها القوي وهزيمتها في الثانية”. في حين يتخوف المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك بعد كورونا من “همجية بوجه إنساني”.
والسؤال المهم هو: هل يمكن بناء اشتراكية أو أقله عدالة اجتماعية ضمن التعددية الديمقراطية من دون حكم الحزب الواحد الذي يلغي الحريات؟ تجربة الماضي قالت: كلا. والامتحان ليس بعيداً. ولكن ماذا لو كان التغيير الراديكالي صعباً وكل ما تقدمه قوى ديمقراطية وسلطوية هو نوع من تجميل القبيح؟
كورونا لم يصل إلى الذروة بعد. وأقصى آمالنا أن يصحح فينا المثل الفرنسي القائل “العودة إلى الوراء للقيام بقفزة أفضل”.
اندبندت عربي