يقول علم الجيوبولتيك، الموقع، الموقع، ثم الموقع. ويأتي هذا التركيز المُلح لأن الموقع يتخذ محورا مركزيا في تحديد أهمية الدولة وشكلها وعلاقاتها ودورها ومستقبلها أيضا. ولو نظرنا إلى حال العراق فإنه جغرافيا يُجسّد هذه الحقيقة على خريطة العالم. هو مركز ثقل المنطقة التي يؤثر فيها ويتأثر بها ومن كل الاتجاهات، لذلك عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية تغيير شكل المنطقة، بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، لم تجد منصة تنطلق منها لإحداث التغيير، سوى بتغيير العراق أولا.
وهنا ينبغي التمعن في ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهو يبشر بقرار الغزو، لنجد أن أهمية الموقع هي التي أملت عليه ضرورة الغزو، ولم يكن اختيارا له. لذلك قال (ليس خيارا بالنسبة لنا ألا نفعل شيئا)، أي أن الغزو ضرورة. وعندما أجابه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك بالقول «ستصل إلى بغداد، وسيتحقق لك ما تريد لكن الآتي سيكون الأسوأ»، فشيراك كان ينطلق من معطيات الموقع أيضا، وما يفرضه من شروط على كل اللاعبين، وبها يستطيع أن يغير قواعد اللعبة في المستقبل، على خلاف ما تم رسمه في دوائر صنع القرار الدولي، أي أنه كان يقصد أن موقع العراق وأهميته، هما اللذان جعلا غزوه ضرورة لمصالحك، لكن العوامل نفسها الموجودة في هذا البلد هي أيضا التي سوف تفرض عليك الآتي بما فيه من سوء.
الحروب واستخدام القوة وتنفيذ العمليات السياسية لتحقيق أهداف تغيير الدول، جزء من السياسة الخارجية الأمريكية
لقد اتخذ الغزو في عام 2003 ضرورته لاعتبارات الأهمية الجغرافية للعراق، التي جعلت من عوامل الديموغرافيا والثروات 143 مليار برميل نفط احتياطي، ذات تأثير عال على مفاعيل السياسة الإقليمية والدولية. فالجغرافيا يراها الكثير من المفكرين، العنصر الوحيد الثابت في التاريخ، وهي القادرة على التحكم بحركة كل من السياسة والتاريخ معا. وقد ذهب بعض الخبراء في علم الجيوبولتيك للقول، بأن نظرية العالم البريطاني ماكيندر، الذي حدد فيها بؤرة الثقل الجغرافي، قد تنطبق على العراق أيضا، لأن من يسيطر على هذا البلد، فإنه لا محالة سيسيطر على منطقة الشرق الأوسط، لذلك كانت المراهنة الأمريكية قائمة على أن السيطرة على العراق ستشكل منعطفا في شكل المنطقة ومستقبلها، وتساعد في تشكيل جديد لطبيعة القوة والدور الأمريكي. وقد وظّفت الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الغزو قوتها الصلبة كعصا ردع في المنطقة، في سبيل رسم ملامح ما سُمي بالشرق الأوسط الجديد. ثم انعكس هذا التوظيف على فاعلية قوتها الناعمة أيضا، حيث ترافق مع الحدث إرسال رسائل دبلوماسية لجميع الأطراف وفي كل الاتجاهات، بأن واشنطن باتت جارا جديدا لكم في المنطقة، وأن مراعاة الجار الجديد تتطلب السير في الالتزام بطريقين لا ثالث لهما: من لم يكن معنا فهو ضدنا. وقد نجحت الولايات المتحدة في رسم ملامح استجابة واضحة لسياستها في العراق، وإيجاد مساحة ترتسم فيها ملامح التغير في العلاقات العربية ـ العراقية، والإقليمية – العراقية، والدولية ـ العراقية أيضا. وبدا واضحا كيف أن الغزو فرض نفسه على عملية صنع القرار العربي والإقليمي. فامتنع الاشقاء عن التحرك باتجاه الشقيق، الواقع تحت الاحتلال، بانتظار التعليمات من واشنطن. وتحركت إيران لمزاوجة دورها مع الدور الأمريكي في لعبة التخادم لكسب المصالح. وهبّ الغرب للمشاركة في كل ما يجري في العراق، أملا في الحصول على حصة ودور، وبناء مصالح سياسية وعسكرية واستخباراتية واقتصادية. ومع تلاقي كل هذه الأطراف تَشكّل واقع جيوسياسي جديد في المنطقة، كانت تريده واشنطن حيزا جغرافيا لها، للبقاء ولممارسة النفوذ على الجميع، مقابل أن تسمح لهم بالحصول على جزء من الكعكة.
وإذا كانت المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، قد فرضت ضرورة غزو واحتلال العراق، فإن ذلك جاء منسجما تماما مع النظرة الإسرائيلية في ضرورة تدمير هذا البلد. فقد كانت إسرائيل تعتبر بغداد أخطر عاصمة قرار عربي مضاد لها، والخطورة تأتي من الإمكانيات والقدرات التي يمتلكها البلد، ويشكل بها عمقا استراتيجيا كبيرا للعرب، ولأنه كذلك فقد كانت تعتبره إحدى دول المواجهة، على الرغم من أنه لا توجد حدود مشتركة بين الطرفين، لذلك حتى أثناء مشاغلة إيران له بحرب الثماني سنوات، فإن خطابها كان متشددا ومحذرا من خطر عراقي داهم على وجودها. واستغلت ظروف الحرب لتشن هجوما مباغتا لتدمير برنامجه النووي السلمي. وحين توقفت المعارك في أغسطس/آب 1988 بدأ صانع القرار الإسرائيلي مع المحافظين الأمريكيين الجدد بالضغط على صُنّاع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية للتخطيط لغزو واحتلال العراق، ثم بدأت ورش صناعة الأخبار والتلفيقات والافكار الهدامة بصنع سيناريو جديد يربط بين إمكانيات العراق وما سُمي «الإرهاب العالمي»، وصولا إلى بروباغندا التهديد العراقي لوجود البشرية، من خلال افتعال كذبة أسلحة الدمار الشامل.
إن غزو واحتلال العراق في عام 2003 كان من أكبر الجرائم التي حصلت في التاريخ الحديث، فقد قضت تلك الحرب على وجوده السياسي وحوّلته إلى دولة فاشلة. فتعطل الدور الذي تؤهله له إمكانياته البشرية والجغرافية والطبيعية في المشاركة في المسيرة الإنسانية. كما سلبت كل التراكم الإنجازي الذي حققه الشعب العراقي بجهود أبنائه وثرواته، من خلال التحطيم المتعمد لبناه التحتية ونهب ثرواته وتسليط طغمة فاسدة تحكمه. وفي الجانب الإنساني شهد أكبر هجرة في التاريخ المعاصر، بعد هجرة الفلسطينيين عام 1948، حيث أقفرت المدن من سكانها وخلت البيوت من أهاليها، وانتشر العراقيون في شتى أصقاع العالم، وكانت النسبة الأكبر منهم أولئك الذين كلّفوا الخزينة العراقية أموالا طائلة كي يصبحوا علماء وخبراء وأساتذة جامعات وأطباء. أما ما حصل من قتل وتعذيب وخطف وقتل وتغييب، على أيدي الجنود الامريكان وميليشيات السلطة الحاكمة، فيكفي للاطلاع على تلك الهمجية مراجعة الوثائق التي نشرها موقع ويكيلكس.
إن وهم الاستثنائية الأمريكية، وجعل العالم آمنا بأكبر قدر ممكن، حسب رؤيتها ومصالحها، لابد أن يتم بنشر الديمقراطية السياسية، واقتصاد السوق، وتغيير الانظمة أو تبديلها، حتى إن تطلب ذلك الغزو والاحتلال. وكانت الحروب واستخدام القوة وتنفيذ العمليات السياسية لتحقيق أهداف تغيير الدول، جزءا من السياسة الخارجية الامريكية. وعلى الرغم من حصول الغزو والاحتلال والتدمير الممنهج للدولة العراقية على مدى سبعة عشر عاما، فإن عوامل القوة الذاتية لهذا البلد، بما يشكله من مركز ثقل وعمق استراتيجي، وتاريخ وحضارة وشعب، هي من تفرض شروطها على الغزاة والطغاة، لذلك وُلدت وتشكلت المقاومة العراقية. والسؤال التالي سيكون هل كانت المقاومة العراقية ضرورة أم اختيارا؟
مثنى عبدالله
القدس العربي