أوهام نهاية “القرن الأميركي”

أوهام نهاية “القرن الأميركي”

مع الأزمة الكبيرة التي تسبب فيها كورونا في الداخل الأميركي، لا سيما ارتفاع أعداد الضحايا، وحالة الارتباك التي سادت إدارة الرئيس ترمب أول المشهد، ارتفعت أصوات كانت قد توارت بصورة أو بأخرى خلال السنوات الثلاث الماضية، لتتساءل من جديد، هل جاء كورونا ليعجل بنهاية الهيمنة الأميركية، تلك التي وصفها الإعلامي الأميركي الشهير فريد زكريا ذات مرة، بأنها “هيمنة قصيرة العمر عطفاً على أنها طائشة”، إذ إنه لم يقدر لها أن تستمر سوى ثلاثة عقود، بدأت مع انهيار جدار برلين عام 1989، وانتهت مع غزو العراق سنة 2003، ليبدأ الانهيار البطيء منذ ذلك الحين؟

الشاهد أن الجواب يحتاج إلى رؤية معمقة، غير أننا في هذه السطور نقدم جواباً من غير اختصار مخلٍ، أو تطويل ممل، لا سيما أن رؤية زكريا ومعسكره، يغلب عليها تسطيح متعمد، فالولايات المتحدة سوف تتجاوز كورونا وما بعدها لعقود طوال. كيف ولماذا؟

أميركا أمة المستقبل العظيمة

قبل الدخول في لجج المحاججة بأن القرن الأميركي لن ينتهي عما قريب، كما يخيّل للبعض، لابد لنا من صورة أولية عن فكرة تأسيس أميركا.

واحد من أفضل من كتبوا أخيراً في هذا السياق، بطريرك السياسة والدبلوماسية الأميركية المعاصر هنري كيسنغر، في مؤلفه الكبير والأخير “النظام العالمي… تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”. تقودنا سطور كتاب كيسنغر، لا سيما الفصل السابع المعنون بـ”خدمة البشرية كلها… الولايات المتحدة وتصورها للنظام” إلى القطع بأن أميركا غلب عليها إيمان عميق بأن رسالتها هي “التحرر، لا السيطرة”، وطوال الوقت ظلت تؤمن بأن مشروعها لم يكن توسعاً جغرافياً بالمعنى التقليدي، بل كان نشراً لمبادئ التحرر، ووفقاً للتعاليم الإلهية.

في 1839، ومع قيام بعثة الاستكشاف الأميركية الرسمية باستطلاع الأجزاء النائية من نصف الكرة الغربي وجنوب الهادي، نشرت مجلة “الولايات المتحدة والديمقراطية” مقالاً مهللاً للولايات المتحدة بوصفها “أمة المستقبل العظيمة”، المنفصلة عن كل ما كان قد سبقها في التاريخ والمتفوقة عليها.

يقول النص ما يلي، “حقيقة الأمر، الشعب الأميركي ينتسب إلى عدد كبير من الأمم الأخرى من ناحية، وإعلان الاستقلال الوطني القومي مستند كلياً على مبدأ المساواة الإنسانية العظيم من ناحية أخرى، تسلطان الضوء على وضعنا المنفصل بالنسبة إلى أى أمة أخرى”. يضيف، “في الواقع ليس لنا إلا القليل من الارتباط مع تاريخ أي منها، وما هو أقل من ذلك في كل ما هو قديم، بأمجاده أو جرائمه، كان ميلادنا القومي الوطني على النقيض من ذلك، بداية تاريخ جديد”.

حين تحدث الآباء الأميركيون المؤسسون عن أميركا كمدينة فوق جبل، فقد كانوا واثقين من أن نجاح بلادهم سوف يشكل توبيخاً صارخاً لسائر صيغ الحكم الأخرى، مدشناً عصراً ديمقراطياً مستقبلياً، وأنه من شأن أمة حرة، عظيمة، مكرسة من الإله، متوجة لجميع الدول الأخرى، أن تنشر مبادئها عبر نصف الكرة الغربي طولاً وعرضاً، قوة محكومة بأن تصبح أوسع مدى، وأمضى عزيمة أخلاقية من أي محاولة إنسانية سابقة.

رأى الأميركيون منذ البدايات أن هناك أساساً أخلاقياً وإنسانياً لدولتهم الجديدة، أساس يتمثل في أنهم أمة التقدم الإنساني، وعليه من سيبادر إلى أن يضع حدوداً لمسيرتهم المتواصلة وما الذي يستطيع أن يفعل؟

كان اليقين الأميركي أنها قوة محمية بصورة إلهية، وعليه فإنه ما من قوة أرضية تقوى على إلحاق الأذى بها. تختلف الولايات المتحدة جذرياً من هذا المنطلق، عن سائر دول العالم، فالبعد الثيولوجي في أعماقها حاضر، ومع ذلك فإن هويتها الرسمية علمانية، تفصل الدين عن ممارسات الدولة، وتحترم الأديان والأعراق، من غير تمييز.

اقرأ المزيد

أميركا تفتح اقتصادها تدريجيا والبورصات تنتعش

أميركا تحقق في خروج كورونا من معمل في ووهان والصين تسجل 64 إصابة جديدة

حرب كورونا السياسية في أميركا

فائز بجائزة “نوبل”: أزمة “كورونا” في الولايات المتحدة ستمر بأسرع مما هو متوقع
أميركا اضمحلال أم تجديد؟

لعل سؤال انهيار أميركا الذي يتردد اليوم بصورة يشوبها كثير من الخلل البنيوي في البحث والتأصيل، قد نشأ أول الأمر من عند المؤرخ الأميركي بول كيندي الذي بنى نظريته، أو مدرسته التي سوف تعرف لاحقاً باسم مدرسة الاضمحلال، على العلاقة بين الاقتصاد والاستراتيجية، التي أطلق عليها “التمدد الإمبريالي”، ومفادها أنه لكي تحافظ أميركا على حضورها الإمبراطوري، فإن عليها أن تنفق على حضورها الخارجي، ما يستنزف قوتها وثرواتها، مشيراً إلى أن هذا النسق لا يخص أميركا وحدها، بل سبقتها إليه إمبراطوريات كثر، من الإمبراطورية الرومانية وصولاً إليها.

على أن هذا الطرح قد وجد في واقع الحال انتقادات عديدة من عقول أميركية مفكرة، شكلت توجهات الولايات المتحدة الإستراتيجية في العقود الأربعة الماضية.

كان في المقدمة حكيم أميركا زبغنيو بريجينسكي، الذي شارك بجهد فاعل في هزيمة حلف وارسو، لا سيما في أفغانستان، عطفا على البروفيسور صموئيل هنتغتون الذي تساءل، “هل ما تمر به أميركا اضمحلال أم تجديد؟ وانتهى في جوابه إلى القول بأن “القوة الأميركية هي قوة متعددة الأبعاد، أما القوى المنافسة لها فهي قوى ذات بعد واحد”.

والثابت أن بول كيندي بسؤاله عن الاضمحلال، كان قد فتح الباب أمام التساؤل عن “نهاية القرن الأميركي”، غير أن تلك المدرسة بدورها، وجدت نقداً جارياً من العديد من العقول الأميركية، مثل “إيفو دالدر” رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العولمية، والمنظّر للسياسات الأميركية الخارجية، و”روبرت كاجان” المؤرخ المنتمي إلى جماعة المحافظين الجدد، واللذين اعتبرا أن القدرات الأميركية لا تزال ذات وزن، فالاقتصاد لا يزال هو الأكثر ديناميكية في العالم، والدولار هو أقوى العملات الاحتياطية العالمية، ويسعى الناس في أنحاء المعمورة إلى الاستثمار في الدولار لدعم اقتصاداتهم الضعيفة، كما أن مؤسسات التعليم العالي الأميركية هي الأفضل، وتستقطب الطلاب من أقاصي العالم.

أما عن القيم السياسية التي ترفع أميركا لواءها، فهي لا تزال قوة التغيير الحقيقية في الداخل، القادرة على تجاوز أي كبوة، ففي زمن ينبعث فيه الاستبداد في روسيا والصين وإيران وغيرها، يبقى الصوت الأميركي حول العالم عالياً، ويتضاعف عدد حلفاء واشنطن وشركائها حول العالم، الذين يفوقون الخمسين حليفاً وشريكاً بشكل استراتيجي عميق، في حين لا يزيد حلفاء روسيا والصين على حفنة قليلة من الساعين البراغماتيين في طريق الأمم.

أميركا… قوة أم هيمنة؟

كيف يمكن توصيف وضع الولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد، هل هي قوة غير مسبوقة أم هيمنة من غير ضابط أو رابط؟.

سؤال جوهري أفضل من تصدى لتقديم جواب عنه، البروفيسور “جوزيف إس. ناي” الابن، أحد أهم المفكرين الاستراتيجيين الأميركيين الذين يجمعون بين الأساس الأكاديمي وبين الخبرة والعمل الدبلوماسي، وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، وقد شغل العديد من المناصب المتقدمة في البلاد.

في كتابه الصادر عام 2015 “هل انتهى القرن الأميركي؟” يوضح “ناي” أنه ليس هناك في التاريخ دولة تفوق الولايات المتحدة عسكرياً، ويسمي بعض المحللين هذا “بالهيمنة” ويقارنونها بالهيمنة البريطانية في القرن التاسع عشر. هنا يبدو من الشائع أن الولايات المتحدة، تبدو أنها تتبع خطوات بريطانيا العظمى “آخر قوة مهيمنة”. لكن ما مدى دقة هذه المقاربة؟

المؤكد أن التشابه التاريخي على هذا النحو، يبدو شعبياً لكنه مضلل فخلال ما سمي بالسلام البريطاني، لم تكن بريطانيا متفوقة كما الولايات المتحدة اليوم. المقاربة السابقة استدعت تساؤلات أبعد تاريخياً، كما فعل “كولن ميرفي” الكاتب الأميركي، ومحرر مجلة “أتلانتيك” الشهيرة في كتابه “هل نحن روما”؟

يقارن “ميرفي” بين أميركا اليوم، وروما قبل ألف وخمسائه عام تقريباً، وعنده أن روما لم تخضع لصعود إمبراطورية أخرى، بل عانت تدهوراً مطلقاً في مجتمعها واقتصادها ومؤسساتها، تركتها غير قادرة على أن تحمي نفسها من الحشود وغارات القبائل الغازية.

وبمقاربة حقائق نهايات روما مع الداخل الأميركي، لا تثبت المطابقة مع روما بالمرة على النموذج الأميركي، فروما تقوضت من الداخل، حيث فقد الشعب الثقة في ثقافتها ومؤسساتها، وخاضت القوة معارك السيطرة، وزاد الفساد، وفشل الاقتصاد في النمو، وما أبعد هذا عن المشهد الأميركي اليوم.

الذين يحاججون بأن أميركا اليوم هي روما في الزمن القديم يجانبهم الصواب، فقد وصلت روما القديمة عند نقطة بعينها إلى أن أضحى اقتصاد بلا إنتاجية، وأمست مجتمعاً متصدعاً بحرب ضروس، وفساد منتشر وتحلل في المؤسسات السياسية بشكل جعل روما غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

من الصعب أن نستنتج من الحقائق السابقة تشابهاً مستداماً بين الولايات المتحدة وروما، وربما يكون للثقافة الأميركية ثغرات ولكنها تظل قابلة للإدارة والإصلاح، وأقل خطورة من زمن مضى.

وقد تتعدد المشكلات الاجتماعية في الداخل الأميركي، لكن في مجتمع مفتوح، تجد القدرة على تجديد تيارات الحياة خاصة في دولة لا تزال تستقبل المهاجرين من جميع بقاع الأرض، وقد ينمو الاقتصاد الأميركي ببطء، لكنه يظل الأكثر تجديداً من حيث استخدام التكنولوجيا التجارية، وبسبب ثقافة رواد الأعمال، وهي الأكثر اتساقاً بين الصناعة وبين أعلى الجامعات مرتبة، وهي تقود العالم في البحث والتطوير، وفي مقدمة الإلكترونيات الحيوية، والنانو، والطاقة الجديدة. هل من أسس أو قواعد تجعل أميركا بالفعل قوة بعيدة عن أزمنة الاضمحلال، حتى وإن خسرت بشكل أو بآخر معركة كورونا أو غيرها من المعارك المؤقتة؟

gettyimages-1218508829-594×594.jpg
صور لشخصيات تاريخية أميركية بالأقنعة الواقية في متجر بنيويورك (غيتي)

دولة القانون والقضاء المستقل

كتبت روما تاريخ إمبرطوريتها حين سادها القانون الروماني، الأصل في كل القوانين الدولية اللاحقة، وحين غاب عنها، أفلت شمسها وأذنت بالغروب. ماذا عن دولة القانون في أميركا، وهل قضاء الولايات المتحدة يجعل منها قوة استقرار لعقود طويلة؟

المقطوع به أن المنظومة القضائية الأميركية، هي حصن الأمان الأكيد والأكثر ضمانة لمستقبل أميركا، وبأكثر من جيوش الولايات المتحدة المنتشرة براً، والسابحة بحراً، والمحلقة جواً.

القضاء الأميركي، يجعل الولايات المتحدة دولة مساواة بعيدة عن فخاخ التمييز، ولهذا تقول “روث جنسبرج” القاضية في المحكمة العليا، “ينظر العديد من الحقوقيين في الولايات المتحدة إلى المراجعة الدستورية التي تقوم بها المحاكم فيما يتعلق بمجالات حقوق الإنسان، باعتبارها سمة مميزة لأمننا وفخراً لها، وأنا أوافقهم على ذلك”.

قضاء أميركا المستقل، هو ما يوفر إحساس الأمان، ويضفي معنى ومبنى العدالة على نسيجها الاجتماعي، الأمر الذي تشرحه بوضوح “فيليبا ستروم” أستاذة القانون الدستوري بجامعة ولاية وين، التي تأخذ من قضية الصراع الذي دار عام 2000 على هامش الانتخابات الرئاسية بين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن ومنافسة الديمقراطي آلبرت غور، مثالاً على ذلك الاستقلال.

بينما كان النزاع على أشده، رفعت قضية أمام المحكمة العليا الأميركية حول المسألة، أكد الحكم الذي صدر عنها أن بوش هو فعلياً المنتصر على غور.

وضع هذا الحكم نهاية للأمر، وألقى “آل غور” خطابا هنأ فيه بوش بالفوز، وعاد المتظاهرون إلى منازلهم، وأعلن سياسيون من الحزب الذي خسر السيطرة على الرئاسة عبر شاشات شبكات التلفزيون، أن الوقت قد حان لتوحيد القوى والانطلاق لتسيير شؤون البلاد.

لم يبتهج كل الناس في أميركا بقرار المحكمة، ولكن كان هناك شبه إجماع بأنه من الضروري قبول هذا القرار. وبينما دارت التساؤلات حول الميول السياسية للقضاة، لم يشك أحد بأن القرار الذي توصلوا إليه اتخذوه باستقلالية تامة بعيداً عن الممثلين السياسيين كافة.

لن ينتهي القرن الأميركي طالما هناك دولة القانون، واستقلال القضاء الفيدرالي، وقد اختبر الأميركيون ذلك وعرف العالم صحة الأمر، حين أصدرت محاكم البلاد أحكاماً ضد قرارات الرئيس ترمب، عندما سعى لحرمان جنسيات معينة من دخول البلاد، في هذه اللحظة تجلت عظمة أميركا في الحريات الدستورية بالفعل.

على هذا الأساس يبقى اتفاق المجتمع على وجوب احترام ما يصدر عنه من أحكام، من أهم السمات التي تميز النظام السياسي الأميركي، والحقيقة المقطوع بها أنه لا توجد محكمة على مستوى العالم تماثل في سلطاتها ما تملكه المحكمة العليا من سلطات استثنائية لحل النزاعات التي تثور في المجتمع ولتفسير مواد الدستور القومي والمشاركة في صنع السياسة العامة.

قال “ويليام رنكو يست” رئيس المحكمة العليا الذي نظر في قضية الجدل الذي ثار حول انتخابات عام 2000 قبل سنوات من توليه هذا المنصب “إن القضاء الأميركي يشكل واحدة من جواهر التاج الذي يكلل رأس نظام الحكم في بلادنا”.

آمن الآباء المؤسسون الذين كتبوا إعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1776 والدستور عام 1789 بأن حقوق الشعب سبقت وجود الحكومات، لذلك أكدوا في الإعلان أن الناس يولدون متمتعين بحقوق يجب أن تعمل الحكومة على حمايتها وتعزيزها. هل من رافد أصيل يجعل التنوير والتقدم صنوان لقوة أميركا الحقيقية؟

المنظومة التعليمية والعظمة الأميركية

رغم كافة الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة التي يصدرها البعض ضد الولايات المتحدة، ترى الجميع يتهافت على إرسال أبنائه للتعليم في جامعات أميركا. وفيما الصين تعمل جاهدة على اللحاق بالولايات المتحدة، يسارع كبار قادة الحزب الشيوعي الصيني لإرسال الأجيال الجديدة من ذريتهم للتعلم في الولايات المتحدة، وفي المقدمة منهم الرئيس “شي جين بينغ” عينه. ما الذي يجعل منظومة التعليم الأميركية أحد أسرار عظمة ومنعة البلاد وقوتها؟ على من يود الاستفاضة في معرفة السبب أن يلج كتاب “جوناثان كول” رئيس جامعة كولومبيا الشهيرة السابق والمعنون بـ”جامعات عظيمة… قصة تفوق الجامعات الأميركية”.

في هذا العمل يقدم أستاذ علم الاجتماع الأميركي صاحب الكتاب رؤية وافية على ما يجعل أميركا دولة ذات مستقبل، إنها الجامعات الأميركية، التي تسودها الروح الأكاديمية ورحابة البحث الحر الذي تجسده.

التعليم الأميركي، هو الذي ضمن لأميركا ولا يزال تفوقها في غالبية مناحي الحياة، وإلى جامعاتها ومعاهدها العلمية تعزى روح الإبستمولوجيا وحب المعرفة، وتتقلص الأيديولوجيات وتتلاشى الدوغمائيات، ولهذا يولي غالبية المتميزين وجوههم شطر الولايات المتحدة لاكتساب العلم الفائق النفع.

ما الذي يجعل المؤسسة التعليمية حجر الزاوية الرئيس في ضمان استمرار النهضة والتفوق الأميركيين، وتظل حاضنة فعلية للنظم القومية للابتكار، ذاك الذي يرفد الولايات المتحدة على مختلف الأصعدة؟.

يبين لنا البروفيسور “كول”، أن هناك علاقة متبادلة بين الصناعة وجامعات الأبحاث من أوجه عدة، ليس فقط من خلال اتفاقيات الترخيص، ولكن أيضاً من خلال إنتاج الأفراد المدربين والموهوبين الذين يعملون في المختبرات الصناعية، ومن خلال تأسيس هيئة التدريس بالجامعة، ولا يمكن أن تعمل المعامل الصناعية الكبرى دون إمداد الجامعات بأفراد موهوبين من ذوي الكفاءات والمهارات.

أدت الشراكات البحثية بين الجامعات والشركات إلى ازدياد فرص العمل التي تنشأ نتيجة الاكتشافات، كما أن الإسهامات في العلوم الاجتماعية والسلوكية والعلوم الإنسانية قد نتجت من خلال تأثير الأفكار والمفاهيم والطرائق، وكذلك من خلال الأشخاص الذين يقومون بوضع هذه الأفكار، وطاقم العمل في المنظمات المعاونة، والأعمال التجارية التي تعتمد على التدريب الذي يوفر في هذه المجالات عن طريق الجامعات النخبة، تلك التي تضمن ريادة أميركا المعولمة.

أميركا سيدة الإعلام الحر

ضرب فيروس كورونا العالم انطلاقاً من الصين حيث نشأ هناك وانتشر، غير أن التعتيم الإعلامي الذي باشرته بكين وحزبها الشيوعي الحاكم، أدى في واقع الأمر إلى أكثر من مليوني إصابة وعشرات الآلاف من الوفيات التي تتزايد يوماً تلو الآخر، ومع ذلك لا يعلم أحد ما الذي جرى، ولا أصل القصة، فالأفواه مكممة، والحقائق غائبة.

المقارنة بين الصين وأميركا على كافة مستويات التنافس الاستراتيجي، ربما ليست هي محل البحث في هذه القراءة، لكن على القارئ أن يقارب بين التغطية الإعلامية الأميركية التي تحاول البحث بالتدقيق في كل أبعاد الأزمة، وتضع إخفاقات إدارة ترمب في مقدمة أخبار نشراتها، وعناوين صحفها، من غير خوف أو تردد، فحرية الرأي، وتبادل المعلومات مصانة بقوة الدستور.

كتب البروفيسور الأميركي “جون دبليو. جونسون”، رئيس كلية التاريخ بجامعة “نورثورن” في ولاية “أيوا” عن دور وسائل الإعلام الحرة حول العالم، وفي الولايات المتحدة يقول، “من أهم اشتراطات المجتمع الذي يعتبر نفسه ديمقراطياً حقاً، أن يؤمّن درجة عالية من الحماية للتعبير عن الفكر المنشور عبر وسائل الإعلام المختلفة، من صحف ومجلات، أو كتب، أو الذي تعرضه الأفلام السينمائية، أو تبثه قنوات التلفزيون أو شبكة الإنترنت. هنا تنعكس التجربة الأميركية على امتداد قرنين، مثالاً مشرقاً لمحاولة دولة واحدة وضع قواعد إجرائية لتنظيم حرية التعبير”.

يوصف القرن العشرين بأنه قرن ثورة المعلومات، ومن يمتلك القوة المعلوماتية هو حقاً من ستكون له اليد العليا حول العالم، ما يتفق والقول إنه في زمن الإمبراطورية الرومانية كان من يعطي الخبز يعطي الشريعة، فيما الآن فإن من يمتلك وسائل الإعلام، لا سيما إذا كانت حرة ومستقلة قادر على توجيه دفة القيادة حول العالم.

لا تمتلك الدولة في أميركا وسائل إعلام، ومع ذلك فإن كل وسيلة إعلامية أميركية حرة، بدورها تعد رصيداً مضافاً للقوة الإعلامية للدولة، التي ستبقى فاعلة حول العالم لعقود مقبلة.

2030… أميركا قوة مركزية

هل من أسباب أخرى تقود لبقاء الولايات المتحدة كقوة مركزية حول العالم طوال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟

علينا الرجوع إلى التقرير الصادر عن “مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي”، وعنوانه “اتجاهات عالمية 2030… عوالم بديلة”، وفيه باختصار ثماني ركائز تجعل القارئ يوقن بأن واشنطن ستبقى “مدينة فوق جبل”، طوال السنوات العشر المقبلة. فما هي؟

باختصار يمكننا أن نجملها فيما يلي:

– الموقع الجغرافي، فموقع أميركا الجغرافي يضعها ضمن القوى العظمى، ويجعلها بمنأى عن أي تهديد من قبل أي منافس حقيقي في الجوار.

– وفرة المصادر الطبيعية، إذ تعتبر الولايات المتحدة من أكثر دول العالم امتلاكاً للأراضي الصالحة للزراعة، إلى جانب غناها في المصادر الطبيعية، وهي توشك على الوصول إلى درجة الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة.

– اقتصاد محلي قوي، يمكن تلمس مظاهر قوته في التكامل وقوى العمل، وأسواق النفط، والبراعة في الابتكار، والتصنيع والتقنية والخدمات، وهو ما يبرهن على صموده ومرونته بالمقارنة مع الاقتصادات الناشئة المعرضة للاختناقات التنموية.

– اقتصاد مترابط مع العالم، يرتبط الاقتصاد الأميركي ارتباطاً وثيقاً باقتصادات آسيا، وأميركا اللاتينية، وأوروبا، والشرق الأوسط، والخليج العربي، وبأقوى من أي من هذه المراكز ذات النفوذ الاقتصادي والمالي بين بعضها البعض.

– التنوع العرقي، يتصف المجتمع الأميركي بأنه مجتمع تعددي مفتوح أمام الهجرة، والعوامل الديموغرافية المواتية، وتفوق نظام التعليم العالي، وثقافة الفرصة المستمرة، واستمرار جذب المواهب من جميع أنحاء العالم، جميعها تؤكد بقاء الولايات المتحدة الأميركية في خانة دائرة الابتكار، ما يكفل لها السيادة والريادة لزمن بعيد.

– قوة الارتكاز الكبرى، متمثلة في التقدم الكبير بالقوة الوطنية الشاملة للولايات المتحدة عبر المصادر الطبيعية الاقتصادية، والعسكرية، والتقنية، هذه تجعل من الصعب للغاية على القوى الناشئة منافستها، حتى لو تمكنت دول مثل الصين من التفوق في نهاية المطاف على الولايات المتحدة في المكونات الفردية للسلطة الوطنية، مثل الناتج المحلي الإجمالي أو الإنفاق العسكري.

– قدرة أمريكا المتواصلة على إنتاج التبعية، وهذه بدونها لا يمكن أن تكون هناك قيادة كاريزماتية حول العالم، وهذا ما يلاحظه الباحث الأميركي “دافيد كانغ”، الذي يرى على سبيل المثال، أنه بينما العديد من البلدان يبدى إعجاباً بإنجازات الصين الاقتصادية، فإنه لا الصين، ولا أي دولة أخرى منافسة للولايات تتوفر لها القدرة على استقطاب أتباع لها ضمن مجموعة كبيرة من التحالفات والشراكات العالمية كما في الحالة الأميركية.

الدور المركزي في النظام العالمي الليبرالي وجد بالأساس لخدمة النفوذ والمصالح والمعتقدات الأميركية، إلى جانب مكونات أخرى لقوى صاعدة وناشئة أخرى كالهند.

الكذبة الصينية

عما قريب سيكتشف العالم أن القرن الأميركي لم ينته، وبنوع خاص عندما تتضح المعلومات الحقيقية عن الصين، وما تسببت فيه من كارثة للعالم برمته، وهي في طريقها للانكشاف بحال من الأحوال، وسوف تخسر الصين ومِن ورائها القوى الآسيوية الصاعدة الكثير، لا على الصعيد الأخلاقي فحسب، بل على الصعيد اللوجيستي، وأول ما سيصاب في مقتل مشروع الصين الكبير، طريق الحرير الجديد، فمن يقبل شراكة مع دولة كانت خلف كذبة كبرى أدت إلى انهيار عالمي يحتاج إلى أكثر من عقد من الزمن للتداوي من جراحاته، وهذه قصة أخرى قائمة بذاتها وقادمة لاحقاً.

أمام الولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام فرصة ذهبية من جديد، لتؤكد ومن خلال مراجعة داخلية كاشفة ومصححة أنها أميركا المثالية، المدينة فوق جبل، وهي قريبة جداً من ذلك إثر استفاقتها من صدمة كورونا.

إميل أمين

اندبندت العربي