على الرغم من الخسائر العنيفة والحادة التي تتكبدها الاقتصادات مع استمرار مخاطر وتداعيات فيروس كورونا المستجد، لكن حتى الآن ما زال خطّ الدفاع الأول المتمثل في البنوك المركزية صامداً وتعتمد عليه الحكومات في تمويل الإنفاق العام والخاص بمواجهة مخاطر فيروس كورونا.
وتسبّب وباء “كوفيد-19” المستجد في أزمة بشرية وصحية غير مسبوقة، كما أدت الإجراءات اللازمة لاحتوائه إلى اتجاه هبوطي في الاقتصاد العالمي والتحوّل من مجرد ركود إلى موجة من الانكماش العنيف. وفي هذه المرحلة، توجد درجة كبيرة من عدم اليقين بشأن مدى شدّة وطول هذه الأزمة.
التقارير الخاصة بمدى الاستقرار المالي العالمي تشير إلى أن النظام المالي قد شعر بالفعل بتأثير كبير، ويمكن أن تؤثر زيادة حدة الأزمة على الاستقرار الاقتصادي، وذلك وفقاً لتحليل حديث نشرته مدونة صندوق النقد الدولي، حيث إنه ومنذ تفشي الوباء، تراجعت أسعار الأصول الخطرة بشكل حاد، حيث عانت من تراجع بنحو النصف أو أكثر من وتيرة الهبوط المسجلة في عامي 2008 و2009، وذلك خلال أسوأ مرحلة من الموجة البيعية الأخيرة.
تقلبات غير مسبوقة تتجاوز الأزمة المالية العالمية
التحليل أشار إلى أنه، على سبيل المثال، عانى العديد من أسواق الأسهم، سواء في الاقتصادات الكبيرة والصغيرة، من انخفاض بنحو 30 في المئة أو أكثر مقارنة مع القاع الأخير المسجل، كما قفزت الفوارق الائتمانية، وبخاصة بالنسبة إلى الشركات ذات التصنيف المنخفض. كما ظهرت إشارات الضغوط كذلك في أسواق التمويل الكبرى قصيرة المدى، بما في ذلك السوق العالمية للدولار الأميركي.
أيضاً، قفزت التقلبات في بعض الحالات إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية العالمية، وسط حالة من عدم اليقين بشأن التأثير الاقتصادي للوباء. ومع القفزة المفاجئة في التقلبات، تدهورت سيولة السوق بشكل كبير بما في ذلك في الأسواق التي تعتبر عميقة من الناحية التقليدية، كما هو الحال في سوق الخزانة الأميركية، مما يسهم في التحركات المفاجئة لأسعار الأصول.
ومن أجل الحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي ودعمه، كانت البنوك المركزية في أنحاء العالم كافة هي خط الدفاع الأول. حيث قامت بتيسير السياسة النقدية بشكل كبير عبر خفض معدلات الفائدة، وفي حالة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات متدنية من الناحية التاريخية.
كما أن نصف البنوك المركزية في الأسواق الناشئة والدول ذات الدخل المنخفض خفضت معدلات الفائدة أيضاً. وسيتم تعزيز تأثيرات هذا الإجراء من خلال آفاق البنوك المركزية حول مستقبل مسار السياسة النقدية وتوسيع برامج شراء الأصول.
كما قامت البنوك المركزية بتوفير سيولة إضافية للنظام المالي، بما في ذلك من خلال عمليات السوق المفتوحة. وأيضاً، وافق عدد من البنوك المركزية على تعزيز توفير السيولة بالدولار الأميركي من خلال ترتيبات خطوط المبادلة. فيما أعادت البنوك المركزية تنشيط البرامج المستخدمة خلال الأزمة المالية العالمية، بالإضافة إلى إطلاق مجموعة من البرامج الجديدة واسعة النطاق، والتي تشمل شراء الأصول الأكثر خطورة مثل سندات الشركات.
البنوك المركزية تواصل تمويل الأسر والأفراد
ومن خلال التدخل الفعال للبنوك المركزية بصفتها “مشتري الملاذ الأخير” في تلك الأسواق والمساعدة في احتواء الضغوط التصاعدية على تكلفة الائتمان، فإنها تستطيع ضمان استمرارية حصول الأسر والشركات على إمكانية الوصول إلى الائتمان بأسعار يمكن تحملها.
وحتى الآن، أعلنت البنوك المركزية خططاً لتوسيع السيولة المتوفرة لديها – بما يشمل القروض وشراء الأصول- بما لا يقل عن 6 تريليونات دولار، كما أبدت استعدادها للقيام بالمزيد إذا اقتضت الظروف ذلك، ونتيجة لهذه الإجراءات الرامية لاحتواء تداعيات الوباء، بدأت معنويات المستثمرين في الاستقرار خلال الأسابيع الأخيرة، كما تراجعت الضغوط في بعض الأسواق إلى حد ما، واستعادت أسعار الأصول الخطرة جزءاً من الهبوط الذي تعرضت له في السابق. لكن ومع ذلك، لا تزال المعنويات هشّة، كما تبقى الظروف المالية العالمية أكثر تشدداً مقارنة مع بداية العام.
وأشار التحليل إلى أن التشديد الحاد للظروف المالية العالمية منذ تفشي “كوفيد-19” أدى جنباً إلى جنب مع التدهور الكبير في التوقعات الاقتصادية، إلى تحول سلبي حاد لآفاق النمو العالمي المتوقع. ويشير ذلك إلى زيادة كبيرة في مخاطر هبوطية على النمو والاستقرار المالي، حيث إن هناك الآن احتمالية بنسبة 5 في المئة، وهو في الغالب حدث يقع مرة واحدة كل 20 عاماً، بأن نمو الاقتصاد العالمي سيكون أدنى سالب 7.4 في المئة.
ومن أجل المقارنة، كانت هذه الاحتمالية أعلى من 2.6 في المئة المسجلة في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2019. وكما يحدث في كثير من الأحيان في أوقات الضائقة المالية، فإن الأسواق الناشئة تخاطر بتحمل أعباء ثقيلة.
وفي واقع الأمر، شهدت الأسواق الناشئة تدفقات نقدية خارجة من المحافظ الاستثمارية هي الأكثر حدة على الإطلاق بنحو 100 مليار دولار، أو 0.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الاقتصادات، مما يُشكل تحديات صارخة بالنسبة إلى الدول الأكثر ضعفاً.
ومن المحتمل أن يتطلب الانتشار العالمي لفيروس “كوفيد-19” فرض تدابير احتواء أكثر صرامة وممتدة لفترة أطول، وهي إجراءات ربما تؤدي إلى مزيد من التشديد في الأوضاع المالية العالمية إذا تسبب في اتجاه هبوطي في الاقتصاد أكثر حدة وطويل الأمد. كما أنه من المرجح أن يؤدي هذا التشديد بدوره إلى كشف نقاط الضعف المالية التي تراكمت في السنوات الأخيرة في بيئة معدلات الفائدة المنخفضة للغاية، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم صدمة وباء كورونا.
وعلى سبيل المثال، ربما يُجبر مديرو الأصول الذين يواجهون تدفقات خارجة كبيرة إلى البيع في الأسواق الهابطة، وبالتالي تكثيف تحركات الأسعار الهبوطية. وبالإضافة إلى ذلك، قد يواجه المستثمرون الذين يعتمدون على ديون الرافعة المالية مطالبات بسداد أموال إضافية، وربما يضطرون إلى بيع محافظهم الاستثمارية، حيث إن تقليص هذه المديونية المالية قد يفاقم الضغوط البيعية.
ومع تحول الشركات إلى حالة التعسر أو التعثر المالي، فضلاً عن ارتفاع معدلات التخلف عن سداد الديون، فمن المرجح أن تتعرض أسواق الائتمان إلى حالة توقف مفاجئ، وبخاصة في القطاعات الخطرة مثل العوائد المرتفعة وقروض الرافعة المالية وأسواق الديون الخاصة. وتوسعت هذه الأسواق بشكل سريع منذ الأزمة المالية العالمية، لتصل إلى 9 تريليونات دولار على الصعيد العالمي، في حين ضعفت جودة الائتمان للمقترضيين ومعايير الاكتتاب وحماية المستثمرين.
كيف تأثرت الفوارق الائتمانية في سوق السندات؟
في سوق السندات، ومنذ أوائل مارس (آذار) الماضي، ارتفعت الفوارق الائتمانية للسندات ذات العوائد المرتفعة على الرغم من الانخفاضات الأخيرة، وبخاصة في القطاعات الأكثر تضرراً من الوباء، مثل السفر جواً والطاقة. وبالمثل، تراجعت أسعار قروض الرافعة المالية بشكل حاد، نحو نصف الانخفاض الذي شهدته خلال الأزمة المالية العالمية في مرحلة ما.
ونتيجة لذلك، قامت وكالات التصنيف الائتماني بمراجعة توقعات التخلف عن سداد الديون بالرفع بالنسبة إلى الديون في درجة المضاربة إلى مستويات فترات الركود الاقتصاد، كما حدث ارتفاع حاد في حالات التعثر الموجودة ضمناً في السوق. في الوقت نفسه، تتمتع البنوك برأس مال وسيولة أكبر مما كانت عليه في الماضي، كما خضعت لاختبارات تحمل الضغوط وعمليات تدقيق إشرافي أكبر في السنوات الأخيرة، مما جعلها في وضع أفضل مما كانت عليه إبّان الأزمة المالية العالمية.
وعلاوة على ذلك، فإن الإجراءات الكبيرة والمنسقة المتخذة من جانب البنوك المركزية لتزويد البنوك بالسيولة في العديد من الاقتصادات يجب أن تساعد كذلك في تخفيف ضغوط السيولة المحتملة. ومع ذلك، ربما يتم اختبار مرونة البنوك في مواجهة التباطؤ الحاد للنشاط الاقتصادي الذي قد يصبح أكثر حدة وطولاً عما هو متوقع في الوقت الحالي.
لكن الانخفاضات الكبيرة في أسعار أسهم البنوك منذ منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، تشير إلى أن المستثمرين قلقون بشأن الربحية وآفاق القطاع المصرفي. وعلى سبيل المثال، فإن مؤشرات رسملة البنوك القائمة على أسعار السوق الحالية أصبحت أسوأ مما كانت عليه خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008 بالنسبة إلى العديد من الدول. والأمر الذي يثير القلق أن البنوك وغيرها من الوسطاء الماليين قد تصبح كعامل مضخم إذا أصبحت الأزمة أكثر عمقاً.
وأكد التحليل أنه سيظل للبنوك المركزية دور هام في الحفاظ على استقرار الأسواق المالية العالمية والحفاظ على تدفق الائتمان إلى الاقتصاد. لكن هذه الأزمة لا تتعلق ببساطة بالسيولة، بل تتعلق في المقام الأول بالملاءة المالية، في وقت تعرضت فيه قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي إلى حالة من التوقف التام، ونتيجة لذلك، تلعب السياسة المالية دوراً حيوياً.
ويفترض أن تهدف السياسة النقدية والمالية معاً لدعم تخفيف أثر صدمة “كوفيد-19” ولضمان تحقيق تعافٍ مستدام ومطرد والسيطرة على الوباء. وسيكون التنسيق الدولي الوثيق والمستمر بمثابة أمر ضروري لدعم الدول الضعيفة واستعادة ثقة السوق واحتواء مخاطر الاستقرار المالي.
وفي هذا الشأن، يُبدي صندوق النقد الدولي استعداده لتوفير موارده بالكامل، أولاً، للمساعدة في حماية الاقتصادات الأكثر ضعفاً في العالم، وعلى المدى الطويل، لتعزيز التعافي في نهاية المطاف.
أحمد المنشاوي
اندبندت العربي