يحاول تنظيم داعش الإرهابي أن يفرض نفسه من الجديد في المشهد الأمني والعسكري العراقي، حيث نفّذ التنظيم منذ مطلع شهر نيسان/إبريل الحالي، 18 اعتداءً في بعض المحافظات العراقية. حيث تشمل عمليات التنظيم الارهابي في العراق، محافظات صلاح الدين وديالى والأنبار وكركوك ونينوى. ويركز التنظيم نشاطاته على المناطق الريفية النائية على الحدود العراقية السورية غرب وشمال غرب العراق، والمناطق المُتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم شمال العراق، في محافظتي كركوك ونينوى.
وبحسب مسؤولين عسكريين وأمنيين محليين، قالوا إن تصاعد هجمات التنظيم في العراق مرتبط بتحقيقه نجاحاً في إعادة تأمين شبكة الاتصالات بين عناصره، والتي كانت تبعثرت بعد طرده من آخر المدن التي كان يسيطر عليها في هذا البلد نهاية عام 2017، وبين قيادات التنظيم الجديدة.
يأتي ذلك في الوقت الذي يعمل فيه فريقٌ استخباري أميركي ــ عراقي، بعيداً عن كل التأزم السياسي والأمني، في تتبع خيوط دقيقة للوصول إلى زعيم التنظيم الجديد، المدعو أبو إبراهيم القريشي، ومساعديه الجدد، الذين يعتقد أنهم من الصفّ الثاني والثالث في التنظيم، بعد مقتل أو اختفاء أغلب الجيل المؤسس لـ”داعش” خلال السنوات الماضية.
إذ يحذر مسؤولون في وكالة المخابرات الأمريكية من أن مقتل زعيم التنظيم الإرهابي ، أبو بكر البغدادي، في غارة أمريكية يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لم يقوّض قدرات وتهديدات التنظيم، الذي حافظ على تماسك وسلامة بنيته التنظيمية ومنظومة القيادة والسيطرة فيه، بالإضافة إلى أن العديد من فروعه لا تزال تمارس نشاطاتها العسكرية والأمنية في دول عدة.
وإلى حد ما، لا يزال التنظيم يتمتع بحرية حركة نسبية عبر “مجموعات متنقلة” تواصل شنّ هجمات منخفضة المستوى في المناطق “الهشة” أمنياً بالعراق وسوريا، قياسا إلى هجماته “المميتة” قبل السيطرة على مدينة الموصل شمالي العراق، عام 2014، ثم التمدد إلى مناطق واسعة في الجارتين العراق وسوريا.
وهناك شكوك أمريكية حول قدرة “القرشي” على استمرار نشاطات مقاتلي التنظيم بزخم مؤثر يُلفت انتباه العالم إلى وجودهم وعدم هزيمتهم، والحفاظ على تماسك ووحدة بنية التنظيم والحيلولة دون تفككه.
وتُشير تقارير لوزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون)، في آب/ أغسطس 2018، إلى أن التنظيم لا يزال يحتفظ بما لا يقل عن 30 ألف مقاتل في سوريا والعراق.
إلاّ أن بعض الأرقام الصادرة عن مسؤولين أمريكيين في مكافحة الإرهاب أفادت بأن التنظيم يحتفظ بما لا يقل عن 14 ألف مقاتل في العراق وسوريا، بعد فقدانه منطقة الباغوز بريف دير الزور قرب الحدود السورية مع العراق، في آذار/مارس 2019.
بينما تشير أرقام أخرى إلى ما يزيد عن 18 ألف مقاتل، بعد أشهر قليلة من خسارة التنظيم لتلك المنطقة، وهي آخر مناطق سيطرته في العراق وسوريا، بعد أحداث الموصل 2014.
وكجزءٍ من استراتيجياته، يعمل التنظيم على إعادة بناء مجموعاته القتالية في شرق نهر الفرات وغربه في سوريا، وفي المناطق الصحراوية والجبلية في غرب وشمال غرب العراق.
ويرى المراقبون الأمنيون إن قيادة تنظيم داعش الحالية لا تزال امتداداً لتنظيم القاعدة، في إشارة إلى وجود قيادات وشخصيات سابقة من التنظيمات الإرهابية التي عرفها العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003 في هيكل التنظيم الحالي. وأن طبيعة التنظيمات سرعان ما تجد البديل لقيادتها، ولكن بالتأكيد ليس بقيمة أو نسخة من السابقة، وهذا ما حصل مع زعيم القاعدة سابقاً أبو عمر البغدادي، وبعد مقتله جاء أبو بكر البغدادي، وكان حينها من الكوادر الوسطية في تنظيم القاعدة آنذاك، لكنه استطاع أن يقفز بالتنظيم ويعلن عن إنشاء تنظيم أكبر شمل العراق وسورية. أنه “ليس هناك الكثير من المعلومات بعد مقتل البغدادي، عن مجلس الشورى ومجلس الحل والعقد، فالتنظيم عاد للعمل كمنظمة سرّية كما بين عامي 2012-2014، وكل ما ينشر هو عبارة عن تحليل وافتراضات غالبًا لا تطابق الواقع”، معتبرين أن “التنظيم لا يزال يحوي على الكثير من الموارد البشرية، التي قاتلت ضمن الكوادر الميدانية أو الوسطى، أو حتى في الخط الأول، ولهذا فإن من يقود داعش الإرهابي ليس من الجيل الجديد.
وأن التنظيم يقاتل حالياً بطريقة يسعى فيها للعودة إلى وضعه قبل عام 2014 في العراق، وليس من أجل ما يصفه أرض التمكين، بل من أجل ترتيب أوضاعه وتعزيز مصادر تمويله الذاتي وتجنيده العناصر والتوسع بالعمليات، من هجمات تعرضية إلى عمليات نوعية، معتبرين أن الأزمة الصحية (وباء كورونا) صبّت كثيراً في مصلحة داعش الإرهابي داخل العراق، فقد أوجدت له خواصر هشّة، على اعتبار أن القوات الأمنية انسحبت من المناطق المفتوحة وأطراف المدن نحو المناطق الحضرية المكتظة بالسكن، وهذا الخلل رصده التنظيم، وشن هجمات متفرقة في عدد من المدن.
وتحاول القوات الأمنية العراقية وفصائل الحشد الشعبي فرض السيطرة الأمنية على جانبي الحدود العراقية السورية، لحرمان التنظيم من التسلل بالاتجاهين، ومنع تواصل مجموعاته القتالية بين العراق وسوريا، في مناطق الجزيرة شمال نهر الفرات وصحراء البادية جنوب النهر، وصولا إلى المثلث العراقي الأردني السوري.
ومن جانبهم، حذر مراقبون أمنيون، بدورهم، من خطورة تأثير الصراعات السياسية على الملف الأمني، وعدم اتخاذ إجراءات للحدّ من نشاط التنظيم ميدانياً وإعلامياً. موضحين إن استمرار الإهمال الحكومي للملف الأمني والانشغال بالصراع السياسي سيحقق مكاسب للتنظيم، أن التنظيم يسعى بكل جهده لتحقيق أهدافه، وهو يتحرك على جبهتين، ميدانية وإعلامية، وقد استطاع إرباك الملف الأمني بعدد من المحافظات، على الرغم من قلة عناصره.
وحذروا من خطورة استئناف التنظيم للنشاط الإعلامي عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو أمر لا يقل خطورة عن تحركاته الميدانية”، محمّلاً الحكومة مسؤولية “اتخاذ إجراءات عاجلة للحدّ من تلك التحركات، وأن أي تقصير يعني منحها مكاسب سهلة للتنظيم. بعد خسارة التنظيم الارهابي أعدادا كبيرة من قياداته ومقاتليه طيلة أربع سنوات من حرب التحالف الدولي عليه، وعمليات القصف المكثفة والمعارك، التي خاضها مقاتلوه ضد القوات الأمنية العراقية وقوات “البيشمركة” الكردية والحشدين العشائري والشعبي وعدة آلاف من جنود القوات الخاصة لدول التحالف، لذلك سيكون التنظيم بحاجة إلى عدة آلاف من المقاتلين ضمن منظومة قيادة متماسكة قادرة على السيطرة المركزية على المقاتلين، سواءً في توجيه الأوامر أو جمع المعلومات أو شنّ الهجمات على أهداف منتقاه.
ويرى مراقبون ومتابعون للشأن الأمني، ونشاطات الجماعات المتطرفة أيضًا، أن عودة هجمات التنظيم قد يكون من بين أسبابها ما يرتبط بعودة مطالبات إخراج المليشيات الشيعية الموالية لإيران من المدن المحررة في العراق، وتسليم الملف للقوات النظامية، بعد سلسلة شكاوى من قبل السكان المحليين، لا سيما في محافظتي نينوى وصلاح الدين، إزاء ممارسة تلك المليشيات وتدخلها بحياة السكان العامة. ويرى المراقبون أن عودة الهجمات الإرهابية سيسكت تلك الأصوات، ويمنح تلك المليشيات الحجة للبقاء في المدن، وهي نقطة قد تشترك فيها مع القوات الأميركية الموجودة في العراق، والتي تواصل التحذير من استمرار خطر “داعش” الإرهابي، وحاجة هذا البلد للوجود الأميركي من أجل تعزيز أمنه وتدريب قواته.
في الواقع، بعد أحداث الموصل 2014 نجح التنظيم، في الأشهر الأولى، في تجنيد أعداد كبيرة جدا من سكان المناطق التي خضعت لسيطرته، لكنّ الأسلوب “المتشدد” الذي انتهجه في إدارة السكان أدى إلى تراجع واضح في أعداد المنضمين إليه، وهجرة معاكسة من مناطقه إلى مناطق أخرى، عبر مهربين، رغم القيود الأمنية.
وتتطلع وزارة الدفاع الأمريكية إلى تعاون حلف “الناتو” لتقديم المزيد من المساعدة لتدريب القوات الأمنية العراقية ومواجهة أنشطة التنظيم في العراق، من خلال إعداد قوات خاصة مدربة وتفعيل الجهد الاستخباري، وإعادة هيكلة القوات التقليدية وتنظيم صفوفها بما يتلاءم مع التصدي لهجمات داعش التي أصبحت متزايدة. لا تبدو القوات الأمنية العراقية مؤهلة لمواجهة التنظيم وهزيمته بشكل نهائي في غياب الدعم والإسناد الجوي من قوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية