في ذكرى احتلال العراق: هل كانت المقاومة ضرورة أم اختيارا؟

في ذكرى احتلال العراق: هل كانت المقاومة ضرورة أم اختيارا؟

كما كان الغزو والاحتلال ضرورة مهمة لمصالح واستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن أمام صانع القرار في البيت الأبيض سوى المضي فيه. فإن المقاومة التي انطلقت سريعا، لتواجه ذلك الغزو، كانت ضرورة أيضا، ولم تكن اختيارا. وكيف يمكن أن تكون اختيارا، وقد كان الغزو مشروع احتلال، وليس فعلا عسكريا طارئا يعالج موقفا عسكريا هدد الولايات المتحدة في عُقر دارها، أو فعلا سياسيا أضر بمصالحها وأمنها القومي؟
كان المشروع من الوضوح بما يكفي تماما، كي يصبح الفعل المقاوم أداة رد فاعلة وحيدة ولا سبيل لغيرها، فالمحتل وقبل الشروع بالغزو، عمل على تشكيل منظومة لمشروعه الاحتلالي بأدوات محلية، من الذين أطلق عليهم المعارضة العراقية. وكانت هذه التشكيلة، عبارة عن شبكة من القوى المذهبية والدينية والإثنية، التي لا تؤمن إطلاقا بالعراق الواحد الموحد. كان الهدف الأول المُلقى على عاتق هذه الطبقة، هو الضغط على الأطر الاجتماعية، والمفاهيم القيّميّة بُغية تفتيت المجتمع العراقي من الداخل، ثم تحويل كل الهويات الفرعية إلى بُؤر اضطراب تضغط على الإطار المجتمعي العام، فتشكل أوبئة تحمل فيروسات التعصب الرافض للهوية الشاملة، مُركّزة على مطالب فئوية لأجزاء معينة من المجتمع العراقي.
وبهذه الصورة يتشكل حيز رخو يتيح لقوى الاحتلال الاستثمار فيه، لتنفيذ أجنداتهم، في ظل دولة فاشلة، وسلطات فاقدة للشرعية الوطنية. ومن خلال المكتسبات اللاشرعية المتحققة للهويات الصغرى على حساب الهوية الوطنية، تتشكل آليات خاصة بكل فئة، بمرور الوقت تصبح قادرة على الضغط على الأسس الاجتماعية والثقافية للوطن الواحد. ليتم بعدها الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، وهي إزاحة القيم التي توافّق عليها المجتمع منذ قرون من الزمن، واستبدالها بقيم ذات أهداف خارجية.

أدركت المقاومة الوطنية العراقية، أن الغزو كان مرحلة الذروة في الاستهداف، بعد سنوات الحصار والضربات الجوية اليومية طوال عقد التسعينيات

لقد أدركت المقاومة الوطنية، أن الغزو كان مرحلة الذروة في الاستهداف، من بعد سنوات الحصار والضربات الجوية اليومية طوال عقد التسعينيات، وصناعة الأكاذيب عن أسلحة الدمار الشامل، والسلاح العراقي المزعوم بأنه يهدد وجود البشرية، ولأن الغزاة عقدوا العزم على الاحتلال، وبات حقيقة ملموسة على أرض الواقع، لذلك لم يكن أمامها متسع من الوقت للتمعن في الصورة من زوايا أخرى، ولا وقت يمكن أن يُهدر في التردد والتفكير والتمحيص والمماحكات، مع هذا الطرف أو ذاك. فهذه كلها ستأكل من جرف المقاومة، وستكون ارتداداتها سلبية لا إيجابية على القضية العراقية، لأن أي تأجيل في وقت الشروع بالمقاومة يعني مزيدا من التشرذم في الصف الوطني، في حين سيُعطي مزيدا من الوقت للغزاة في التصرف الآمن بمقدرات الشعب العراقي، لذلك كان الإصرار على انطلاقة المقاومة، لإبقاء جذوة الرفض مشتعلة في النفوس، ولتعزيز الأمل في أن شعب العراق لن يلين أمام القوة الجبارة التي يواجهها. كما كان ذلك الإصرار مواجهة ضارية مع جحافل اليأس، الذي بات يروّج له الكثير من الأوساط المحلية، من بينها رجال دين ووجاهات اجتماعية، ورموز كانت محسوبة وطنية، وكذلك أطراف عربية وإقليمية ودولية.
لقد كان أمام المقاومة مسرح واحد لا غير، وكان عليها أن تُظهر كل بطولتها على هذا المسرح، مدفوعة بخوف مشروع على بُنى الإنسان في العراق، وقيمه ومسلماته الروحية، والومضة المعنوية التي يمثلها الوطن في الضمير العراقي. كان هنالك إدراك واع بأن الغزو أقسى هزة يمكن أن تتعرض لها شخصية الإنسان. لذلك كان لا بد من وجود مصدات تُعرقل هذا الموج الجارف، تُدميه، تُمرّغ أنفه في التراب، تُهين آلته العسكرية، كي تصبح لا تُخيف، وتكسر أسطورة القوة الأولى في العالم. كان كل عراقي غيور وشريف بحاجة ماسة إلى هذا الوخز الوطني، كي يُبقي رهاناته قائمة على حيوية القيم التي لا يمكن أن تموت في الشعوب العريقة. وقد تحمّلت المقاومة بشجاعة منقطعة النظير شرف المسؤولية هذه. فكانت أولى مهامها، هي الاشتباك الفكري والنفسي والأخلاقي مع كل المشاريع المناهضة، التي بدأت تتحرك على أرض الواقع بدوافع المصالح الفئوية للهويات الفرعية، أو بدوافع خدمة أجندة الاحتلال، أو بنوازع المصالح الخاصة. فتحلّت بشجاعة الإشارة وبوضوح إلى الخونة والعملاء والمرتزقة، والمنافقين، الذين كانوا ينتظرون المكاسب، قبل اتخاذ موقف. كما لم تترك مساحة حرة بين الوطنية والخيانة يتيح للمترددين التحرك فيها لحساب المنافع المستقاة. فإما أن تكون مع الوطن أو ضده، منطلقة من وجوب جهاد الدفع، الذي هو في القيم الدينية فرض، كالصلاة والزكاة، وهو فريضة مطلقة لا يجوز النقاش فيها عندما يتعرض البلد للغزو الأجنبي.
وإذا كان الغزاة قد اندفعوا إلى العراق من واقع أهميته الجغرافية والثروات الطبيعية فيه، فيقينا كانت نظرتهم أحادية الجانب، ولم تتلمس عناصر القوة الأخرى التي فيه، وهي البعد الشعبي. في حين تلمّس عقل المقاومة الوطنية هذا البعد المهم، لإيمانه بأن شعب العراق لم يكن يوما متوانيا عن الجهود المبذولة من الآخرين، في صناعة أنماط التغيير التاريخي، كما أنه ساهم في صناعة الحضارة والاشعاع الفكري، لذلك رسم خطته على أساس حرب الشوارع والأحياء والمدن، بهدف استهلاك القوة العسكرية للمحتل، ما اضطر الأمريكيين إلى استخدام قواتهم في مهام شرطية في الأحياء والمدن العراقية، فباتوا وجها لوجه مع المواطن في الشارع والسوق والحقل، ما رفع من حالة الاحتكاك اليومي بين الطرفين، تسببت بزيادة النقمة الشعبية على قوات الاحتلال. وفي الوقت نفسه زادت من قاعدة النسيج الاجتماعي، الذي يشكل حاضنة للفعل المقاوم. فكانت فرصة استثمرتها المقاومة لصالحها في زيادة استهداف قوات الاحتلال، وهو ما انعكس على الخطط الأمريكية الموضوعة، حيث انقلبت الاستراتيجية المتبعة رأسا على عقب، فبعد أن كانت كل التصريحات تشير إلى وجود قوات محدودة العدد، صار إلى مضاعفة عديد وعدة القوات. كما ذهبت فرضية الترحيب الشعبي بالاحتلال أدراج الرياح، بعد أن كان قد روج لها قادة الغزو، على اعتبار أن شعب العراق قد أصابه الانهيار المعنوي والوطني.
إن الاهمية التاريخية لأي حدث تكون أكثر وضوحا بعد فترة أطول من الزمن. واليوم وبعد 17 عاما من غزو واحتلال العراق، تبدو لحظة الشروع بمقاومة المحتل الأمريكي، بأنها كانت عصر التنوير، الذي فجّر الروح الوطنية، فرفع الشعب العراقي أمام الغزاة وجعلهم أبطالا، فقد اعتمدت المقاومة على ورشة العقل عند الإنسان، ودفعته دفعا مشروعا لتفسير الواقع في سبيل الوصول إلى الحقيقة. كما أنها وضعت ذاتها سدا منيعا ضد تهديم طموحات شعبنا، وإذلال أمتنا، واقتلاع مفاهيمنا الاجتماعية السائدة، وقيمنا الدينية والدنيوية. ولأنها كانت زلزالا فإن فعلها لن يتوقف في حدود آنية. فالساحات التي غصّت بشباب الوطن الرافعين معاول هدم العملية السياسية إلا واحدة من ارتداداته.

مثنى عبدالله

القدس العربي