بين الصين وأميركا عالم من الملفات

بين الصين وأميركا عالم من الملفات

منذ خروج وباء كورونا في الصين وانتشاره في العالم، وتفجّر الأزمات المالية والصحية في عدد كبير من الدول، بات موضوع العلاقات الأميركية الصينية يتصدر الصحف والمجلات وأحاديث برامج التلفزيون والراديو في العالم بشكل عام، ودول العالم العربي بشكل خاص.

ويطرح كثيرون في حلقات الإعلام والصحافة، لا سيما في العالم العربي، نظريات وقوع صدام محتّم بين الجبارين، وبعض هذه التنظيرات وصلت إلى حد التأكيد أن أميركا والجمهورية الشعبية الصينية في طريقهما إلى مجابهة عسكرية قد تصل إلى ذروة الحرب الشاملة، وطبعاً سيناريو كهذا يخيف الرأي العام ويؤثر بشكل سلبي في الاستقرار الدولي.

وتفصل المصادر المختلفة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم ما تعتبره أمراً حتميّاً في العالم، وهو وقوع مواجهة أمنية اقتصادية بسبب الوباء، إلّا أنّ هذه التكهنات ذهبت بعيداً ممّا هو واقع على الأرض، وهذا لا ينفي أن هناك ملفات عدّة قد فُتحت بين البلدين، ولكن الأمر في هذه المرحلة لم يصل إلى مستوى الحكايات في الحرب الباردة والحروب العالمية في القرن العشرين.

لماذا هذا الكلام عن تراجيديا دولية بين القوتَيْن العظميَيْن؟ بالطبع لأنّ وباء كورونا خرج من الصين وضرب دولاً عدّة، بما فيها أميركا، التي تكبّدت خسائر بشرية ومادية كبيرة، والإعلام يراقب رد فعل الرئيس دونالد ترمب، على ما يُعتبر مسؤولية صينية حتمية في السماح لوباء كهذا بالانتشار. وهنا لا بد من العودة إلى بعض الوقائع، وممّا لا شك فيه أن فيروس كورونا خرج من ووهان من دون أن تكون هناك تأكيدات إذا كان هذا الخروج حصل من مختبر حكومي أو سوق حيوانات، ثم انتشر الوباء في ما بعد إلى المدينة والمقاطعة، وهذا أمر سيُعرف في المستقبل. وما هو واضح أن السلطات الصينية تحرّكت بحسم لعزل مقاطعة ووهان، ومنع القاطنين فيها من التنقل إلى سائر المناطق الصينية بما فيها بكين، غير أن الثغرة كانت في سماح السلطات باستمرار الرحلات الجوية من ووهان إلى دول العالم، بما فيها أميركا. وهنا بيت القصيد، إذ إنّ هناك مسؤولية عن هذه الثغرة، ستطالب الولايات المتحدة بتحديد المسؤوليات فيها وليس بالضرورة أن يتم هذا الأمر في القريب العاجل.

لماذا هناك ترويج في العالم العربي والشرق الأوسط أن المواجهة بين واشنطن وبكين أمر حتمي سيحصل وستتغيّر مواقع القيادة الدولية عبر هذه المواجهة؟ هل لأنّ الأطراف التي تقف خلف الحملة الإعلامية تريد إضعاف أميركا وتحاول إقناع الناس بتقدّم الصين؟ ما نلاحظه في الإعلام العربي يتطابق مع هذا التحليل، فالقوى الراديكالية المتعاونة مع إيران وتلك التي تؤثر فيها جماعة الإخوان تقف وراء نشر أخبار وتحليلات تصبّ في صالح صعود الصين وتراجع أميركا، مع ما يعني ذلك من خروج الأخيرة من المنطقة. إذاً، هذا الأمر لا يتعلق بكورونا، لكن بالأهداف السياسية للقوى الراديكالية في المنطقة.

الواقع مغاير وهذه لائحة بالمحاور التي تتكلم عنها بعض الأصوات التي تدفع باتجاه نظرية المجابهة. فعلى الصعيد العسكري، صحيح أن الصين قوة نووية وتمتلك قوة تقليدية عسكرية كبيرة لكن بالمعنى الاستراتيجي ليست أقوى من أميركا، وإن كانت قوية على أراضيها وفي محيطها المباشر، إذ إنّ القوات الصينية لم تقاتل خارج أراضيها القومية منذ حربها في كوريا في الخمسينيات واشتباكها مع قوات فيتنام عام 1979. كما أن ليست لديها القدرة على إرسال قوات وأساطيل للمواجهة على الساحات المختلفة في الكرة الأرضية، كما فعلت أميركا في الحروب العالمية والحملات التي قامت بها في جميع قارات الأرض. إذاً، على الصعيد العسكري ليست هناك إمكانية للمقارنة، وكما ظهر خلال الحرب الباردة، فإن الدول النووية غير قادرة على استخدام هذا السلاح الاستراتيجي في مواجهة دول نووية أخرى، إلّا إذا كانت تريد الانتحار. فلا أميركا ستضرب الصين تحت أي سيناريو بسلاح استراتيجي والعكس صحيح. بالتالي، ليس هنالك أي معادلة نرى من خلالها حرباً عسكرية بين البلدين بشكل مباشر.

ما يمكن أن يحدث هو أن تدعم القوتان العظميان حلفاءهما في المنطقة، إذا تم تهديدها من قبل الطرف الآخر وهذا قائم حالياً في آسيا الشرقية، حيث تقف أميركا إلى جانب كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وفيتنام، وتدعم الصين كوريا الشمالية. وحتى في هذا السيناريو، فإنّ الأزمات لن تصل إلى مواجهة عسكرية.

على الصعيد الاقتصادي، هناك سباق لا مثيل له بين بكين وواشنطن وبدأ منذ انضمام الأولى إلى منظمة التجارة الدولية بمساعدة أميركا. وبينما كانت الأخيرة تهتم بأزمات العالم وتصرف من ميزانياتها عليها، كانت الصين تغزو الأسواق العالمية من آسيا إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية والداخل الأميركي، وما سمح بذلك، استثمار هائل للأميركيين في الداخل الصناعي الصيني. بكلام آخر، حوّلت أميركا الصين إلى قوة اقتصادية عظيمة وذلك خدم الأسواق الصينية، غير أن إدارة ترمب بادرت إلى الخروج من هذه المعادلة ومنعت الصين من الاستفادة المالية الدائمة من الاقتصاد الأميركي، وتوصّل الرئيسان الأميركي والصيني إلى اتفاق تجاري كبير قبل شهر من انفجار وباء كورونا. أما الآن، فالجميع يعلم أن ملفاً اقتصادياً كبيراً سيُفتح، وبالتالي، أوافق النظرية التي تقول إن الدولتين مقبلتين على مرحلة صعبة، لكنها لن تتطور بشكل سلبي على جميع الأصعدة.

ولعل من أبرز نتائج كورونا بروز اتجاه جذري في الداخل الأميركي يطالب بسحب الصناعات من الصين، وهذا بحد ذاته سيشكّل تطوراً لا بد للصين من الرد عليه، إلّا أنّه من الواضح وكما رأينا سابقاً في الملفات المتعلقة بأزمة الحدود الأميركية المكسيكية والانسحاب الأميركي من اتفاقية باريس ومسألة أميركا والناتو، فإنه إذا صممت إدارة ترمب على القيام بشيء تمتلك القدرة على تنفيذه، فإنها ستفعله، ولو كان يتعلّق بالصين. الاقتصاد الصيني انفلش بسبب مصلحة أميركية، وإذا تغيرت هذه المصلحة، على الاقتصاد الصيني التكيّف مع المعادلات الجديدة. وبالمناسبة، فإنّ شبكة العلاقات الصينية الاقتصادية مع دول كثيرة ترتبط بالنخب الحاكمة في هذه الدول وليس بشعوبها، ونحن لا نقول إنّ الصين ستعود إلى ما كانت عليه في منتصف القرن الماضي، إنّما هناك تغيير كبير سيطرأ على العلاقات الاقتصادية وسيتكيّف الجميع معه، بما في ذلك المجتمع الدولي.

على الصعيد الدبلوماسي، لن يكون كورونا ملفاً أميركياً صينياً فحسب، فهناك دول أوروبية وآسيوية ستطالب الصين بتعويضات وكشف حقائق ما جرى، إذ إنّ هذه الأزمة التي تُعدُّ أكبر كارثة صحية في القرن الـ21 لن تمر مرور الكرام، وهنا أوافق على أن الملفين الدبلوماسي والقانوني سيكونان حاميَيْن، ولكن لن يتطورا إلى ما تروّج له بعض الأصوات في العالم العربي.

في نهاية المطاف، لا تزال الأزمة قائمة وتتطور باتجاهات مختلفة، ولكن في هذه الفترة، لا أعتقد أن هناك دولاً بإمكانها إلغاء دول أخرى، لكن الأوضاع الداخلية في البلدان ستشهد تطورات كبيرة من أميركا إلى الصين إلى سائر الدول الأخرى.

وليد فارس

اندبندت عربي