أحد أبرز تداعيات كورونا كشف قصور الدراسات المستقبلية، وإثارة سؤال المستقبل بشكل عام، فلو نظرنا إلى أي موقع إعلامي أو بحثي أو جهة حكومية معنية بإدارة الأزمة أو حتى عدم إدارتها، لن نجد إلا عنواناً واحداً منذ أسابيع، وهو ماذا نفعل الآن مع كورونا وكيف سيكون المستقبل؟ والأخطر أن الانشغال يتزايد ولا يتراجع، فالكل أصبح يدرك أن ما هو قادم يختلف عن ما هو سابق، وأن هذا الاختلاف كبير، وازدحمت الساحة بالتصورات والأفكار، بحيث طغت تقريباً على كل المنابر والعقول، ووقعنا جميعاً في هذا الأسر والحصار الذي يفرضه فيروس كورونا على العالم.
أما عن الدراسات المستقبلية، فلم تتطرق إلى ما نتعامل معه اليوم، رغم وجود ادعاء أو مقولة إن البعض حذّر من احتمال حدوث هذا النوع من الكوارث، وأن هذه التحذيرات تضمنتها بعض الأعمال الدرامية من رواية وسينما، وربما يكون هذا صحيحاً بحدود، ولكن ما هو مؤكد أن أغلب الدراسات المستقبلية الاستراتيجية لم تضع هذا الاحتمال بجدية كافية، صحيح أن بعضها أثار فكرة أن الحرب البيولوجية، ضمن بقية أسلحة الدمار الشامل، هي أحد مصادر تهديد السلم والأمن الدوليين وكذا الأمن الداخلي، وعموما حتى إذا كان هناك من حذرٍ من الحرب البيولوجية فإنه لم يضع لنا سيناريوهات لما يمكن أن يحدث وكيف يمكن التعامل مع هذه المخاطر؟.
ومع كل هذا لا أحد يستطيع أن يثبت حتى الآن أن هذه حرب بيولوجية شنها أحد ضد آخر، رغم تصاعد حديث المؤامرة وانتقاله من اتهامات صينية للغرب إلى اتهامات غربية حالياً للصين، بل حتى الآن وحتى يثبت أحد الطرفين ذلك، والأرجح أنها نتاج الطبيعة أو تصرفات بشرية خرقاء.
ومعنى ما سبق ببساطة أن هذه الأزمة التي هي أخطر أزمة واجهت البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، لم تكن على خريطة توقعات البشرية التي كانت تتركز حول مخاطر الحرب وأسلحة الدمار الشامل والفقر والنمو السكاني الضاغط على الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى الإرهاب والتغير المناخي، وأن من كانوا دوماً يتصدرون الدراسات المستقبلية قد أخفقوا في توقع هذا الاحتمال. وفي الحقيقة فإن تبعات هذا الإخفاق كبيرة على عددٍ من الأفكار الكبرى المصاحبة لنهضة الحضارة الإنسانية.
وأول هذه التبعات، فكرة قدرة الإنسان على السيطرة على عالمه، وهي إحدى الأفكار الرئيسة المصاحبة للتطور العلمي والتكنولوجي، التي ترسخت منذ قرون، وزاد رواجها في العصر الحديث الذي شهد طفرات في هذا الصدد، والذي تحققت فيه كثير من الأحلام والتصورات فيما يتعلق بالاتصالات والعلاج، وشهدت بالفعل تقدماً هائلاً للعلم وتصدى الإنسان لمجالات بعضها لم يكن يحلم بها.
فلنتذكر أننا كنا نتحدث عن أن العلم يواصل انتصاراته في التغلب على الأمراض المزمنة، وأن معركة الطب المقبلة ستكون مع السرطان، والحقيقة أن العلم نجح في تحسين علاج كثير من الأمراض، وأن الثابت أن تقدم العلاج والإمكانات حققا الكثير من الإنجازات، وأن متوسط الأعمار عبر العالم قد زاد بشكل ملموس في أغلب دول العالم حتى تلك الأقل نمواً اقتصادياً.
ولكن ما ننساه هو أنه لا يزال هناك الكثير من الأمراض التي لم يتم التوصل إلى علاج ناجح لها، وعلى رأسها أمراض المناعة، وعموماً ما جاء به “كوفيد-19″، أننا مهما فعلنا فلا تزال هناك احتمالات لظهور مثل هذه الأمراض، وفكرة أن نعيش في عالم معقمٍ بالكامل لو تحققت قد تكون أكبر كارثة يحققها العلم، لأنها ستعني إنساناً بلا مناعة طبيعية، واحتمال تكرار مثل هذه الأوبئة مع هذا النوع من البشر قد يعني نهاية العالم.
أصاب الفيروس أيضاً فكرة اليقين العقلي والعلمي المرتبطة بالتقدم سواءً على مستوى الدراسات المستقبلية أو على صعيد قدرة العلم ذاته السابق ذكرها على تحقيق عالم كامل تحت السيطرة، وأن هذا العالم قد يكون أفضل مما نعيشه الآن، وطبعاً هذا ليس جديداً، فقد خابت مئات الألوف من التوقعات عبر التاريخ، ليس فقط للمنجمين، وإنما أيضاً من العلماء والباحثين والمفكرين. نعم تحقق الكثير من هذه الرؤى، والسجل كبير لهذا التحقق في كافة المجالات في العلم والسياسة والاقتصاد، ولكن هذه المرة فشلت كل التوقعات لتذكرنا جميعاً بأن هناك سقفاً لهذا اليقين في توقعاتنا العلمية في السياسة والاقتصاد، وأن ما لم يخطر على بالنا قد يكون أخطر بكثير مما فكرنا فيه.
والحقيقة أن أزمة كورونا أكدت هزيمة فكرة فوكوياما من نهاية التاريخ بأن النظام الليبرالي الغربي قد انتصر نموذجه، وإن كانت قد هُزمت قبل هذه الأزمة حتى في الغرب، ولم يعد أحد إلا قليلاً يتصدى لها، إلا أن كورونا أنهى على الفكرة بقسوة شديدة، مثلما هدد أيضا نظيرةً لها تفيد بأن البشرية قد بدأت طريقها للسيطرة على الأرض.
فالشاهد هنا الذي ربما يكون من تداعيات استنتاجات الأزمة أن البشرية، على الأرجح، ستتجاوز هذه الأزمة بثمن باهظ، وستعاود مسيرتها نحو التقدم، وهذه سنة إنسانية يدفعها العقل والمنطق وتشجعها الرؤية الدينية الحكيمة، ولكن مع استئناف سيرها ستواجه كل يوم بتحديات جديدة كبيرة، بينها تحديات التغير المناخي، المهملة بدرجة كبيرة حتى الآن، التي قد تستجلب تحديات لا تقل صعوبة في مجالات عدة، كما أن ريادة الفضاء الحتمية للبشرية خلال تقدمها ستكون لها تبعاتها أيضاً حتى على مستوى الكائنات الحية، بعبارة بسيطة إن الأزمة أكدت أن التحديات لن تتوقف، وأن معالجتها ستكون من الصعوبة بمكان وأنها، أي المعالجة ذاتها أيضاً، ستكون لها نتائجها وأثمانها الفادحة كما هي الحالة الراهنة.
هل يعني هذا أن تتوقف الدراسات المستقبلية، أو أن تتوقف التحليلات؟ بالطبع لا، فلولا الأحلام والتوقعات ودروس الماضي ما كان المستقبل، فمِن استخلاص الدروس تتضح خطوات المستقبل، والأزمة الراهنة مفصلية ويجب استخلاص دروسها العديدة ومعرفة أين تكمن مصادر الخطر، ويكفي أنها كشفت أن العالم مع تقدمه يزداد هشاشة وضعفاً، وأن سرعة الاتصالات وكثافتها مثلما حققت مزايا عديدة للبشرية فإنها تتضمن عيوباً عديدة، ففي السابق كانت الشكاوى من آثارها الاجتماعية والثقافية، واليوم مثلت ثغرة شديدة لسرعة انتشار الأوبئة وصعوبة السيطرة عليها، ولكن لولا أن العالم يلهث لتجاوز الأزمة والعودة لحياته السابقة ما استطعنا تحمل كُلفة هذا الإغلاق. ويظل للدراسات المستقبلية والتحليلات السديدة أهميتها لتحسين تعامل الدول والحكومات والبشر مع المشكلات والتحديات، ولكن من دون وهم تملُك ناصية العالم والسيطرة على كل شيء.
وإذا ما أعادت هذه الأزمة البشر وبخاصة حكومات الدول الكبرى أو المتقدمة إلى قدرٍ من التواضع، وأن التعامل مع التحديات يقتضي التنسيق واحترام الآخر والتعايش، فستكون للأزمة فوائد كثيرة تُضاف إليها إيجابية أخرى واضحة بتذكُرِنا أن في حياتنا السابقة قبل الأزمة ما يستحق، والأهم إعادة اكتشاف معنى الحياة، وأن معاودة محاولة استعادة عالمنا وهذا السعي البشري، مجرد السعي في ذاته، نحو الأفضل وللنجاة ومكافحة التحديات والصعوبات، هو الذي يصنع جدوى للحياة وليست الرتابة حتى مع التقدم المذهل.
محمد بدرالدين زايد
اندبندت عربي