بالرغم من أن الحرب تبدو لا تزال في منتصفها، والواقع يبدو مظلما بشكل مريب، والمستقبل مجهول المعالم تماما، تأتي التصريحات من هنا وهناك غير واضحة، مبهمة ومخيفة بغموضها في ظل تساؤلات حول مستقبل غزة والضفة الغربية خاصة والشرق الأوسط بشكل عام.
يبدو في عام 2023، كل البقاع متصلة ببعضها، أليس كذلك؟ وكأن لا مفر من تأثير مستقبل قطعة جغرافية على أخرى.
فلسطين بموقعها متصلة اقتصاديا، وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وعاطفيا بمستقبل المنطقة بأكملها.. وأيّ حل وواقع سيتم فرضه عليها، سيؤثر حتما بمستقبل دول المنطقة وشكلها وواقعها.
ممكن القول حتى البشرية بأكملها متصلة ببعضها في ظل عصر العولمة والعالم الجديد المبني على الوحدة والاتصال في السراء والضراء.
◙ بعد الحرب سيبدأ الجميع بلملمة أشلائهم، وسيستيقظ العالم على جراح عميقة غير قابلة للشفاء، وسيتولد المزيد من ثقافة الكره والانتقام في المنطقة
إذا، نعود إلى التساؤلات حول مستقبل المنطقة.
الولايات المتحدة تُعتبر الداعم الأول والرئيسي لإسرائيل، تؤثر وتتأثر بقرارات إسرائيل، وبذلك بالتأكيد ستؤثر بشكل واضح وجليّ على مستقبل الفلسطينيين والمنطقة بأكملها وأهمها غزة المنكوبة والضفة التي تهوى بشكل يائس من على شفا الجحيم.
لكن، نجد غموضا في تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن مستقبل الحكم في غزة بعد انتهاء الحرب..
لكن، بنيامين نتنياهو واضح بشكل قاس ومخيف “السلطة الفلسطينية ليست الحل”. أي من الواضح إسرائيل لا تثق بأيّ أحد أبدا، ولا تفكر بالحوار مع أيّ جهة في رؤيتها.
لكن، واشنطن تبدو أقل تطرفا وقسوة في رأيها، ولم تعط أيّ إجابة واضحة.
لذلك بالعودة إلى البحث عن المستقبل.. أفكر، ربما من حق الإنسان المحاولة في تأمل الطرق أمامه.
أيّ واقع سيتجسد يا تُرى؟
هل من الممكن أن ينتهي السيناريو ببقاء حماس مثلا؟
بناء على المشهد ومجريات الأحداث، تبدو إسرائيل شرسة وقاسية بشأن أهدافها.. وكأنها مستعدة للتضحية بالجميع، لا حدود إنسانية أو فكرية أو أخلاقية أو قيمية أبدا تقيد أفعالها وقراراتها وخطواتها، حتى يتراءى أحيانا أن الخطة الأخيرة في قائمتها تتضمن التضحية برهائنها ومواطنيها وأفراد جيشها مقابل تحقيق مآربها.
إسرائيل لطالما كانت تريد القضاء على غزة، إسحاق رابين عام 1992 قال حينذاك: “أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”.
لذا، في سيناريو آخر، في حال خسرت حماس وتم القضاء عليها تماما كما يُقال، نعود إلى التساؤلات المنطقية المشروعة التي من الممكن أن يتم توجيهها للولايات المتحدة أولا، وللمجتمع الدولي، والدول العربية ثانيا: هل من الممكن تسليم الحكم للسلطة الفلسطينية في غزة؟ وإذا كان الجواب نعم، هل ستبقى السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي أم سيتم تغيير ملامحها وماهيتها بشكل يُرضي إسرائيل وتطلعات الولايات المتحدة؟
أي أن يتم إصلاح السلطة الفلسطينية كما تقول الإدارة الأميركية لكن بشكل فعلي يلبي تطلعات الشعب.. أن يشارك الفلسطيني وخاصة النخبة منه في صنع القرارات وواقع أفضل لنفسه مثلا؟
هل تبحث الولايات المتحدة عن بديل في النهاية؟ عن حل حقيقي للأزمة الإنسانية الكارثية المتفاقمة في غزة، أم أنها تكتفي بالفيتو واستمرار الحرب؟
◙ من غير المتوقع إحلال حياة طوباوية في فلسطين، ولا مستقبل قريب مشرق للفلسطينيين حتى وإن هدأت الأمور أو عمّ السكون قليلا لاحقا
هل تبحث في الكواليس مصير أكثر من مليوني “إنسان” في غزة، يعيشون ظروفا حياتية تشبه العلقم بمُرها ومأساتها، خالية من أيّ معطيات حياة إنسانية محترمة؟ إضافة لواقع 4 ملايين “إنسان” في الضفة، توقفت حياتهم بشكل كامل منذ أكثر من شهرين، يعانون من تضييقات، اقتحامات، قتل، اعتقالات، خسائر اقتصادية مخيفة، توقف عجلة التعليم، العمل.. توقف لحياة المواطن بكامل تفاصيلها وبشكل كامل وبائس، وكأن الإنسان في الضفة الغربية أيضا تم رميه في ثقب أسود أعاده بالزمن 20 عاما إلى الوراء في لحظة، ليجلس على قارعة الطريق يحدق في واقعه، محاولا إيجاد مخرج يرضي إنسانيته، محاولا رؤية أيّ ملامح للمستقبل.
إذا نعود للأسئلة.. لن نفعل أي شيء آخر، سوى طرح أسئلة مشروعة:
هل تبحث الولايات المتحدة مع القوى السياسية الفلسطينية أو العربية عن إدارة قوية قادرة على إعادة بناء مستقبل أفضل لمليوني مسكين في غزة مثقلين بذاكرة بشعة وأيام سوداء؟
هل تبحث عن إدارة جديدة في الضفة وغزة، عن أشخاص قادرين على قيادة الشعب الفلسطيني نحو مستقبل أفضل؟
هل تكترث لتحسين أوضاعهم الإنسانية الحياتية، ليس اقتصاديا وسياسيا وأمنيا فقط، بل حقوقيا واجتماعيا وثقافيا؟
هل يتم طرح رؤى جديدة لواقع الفلسطينيين ومستقبلهم، لإحلال حياة طبيعية وتحقيق العدالة ولو بشكل نسبي.. خطوة بعد خطوة.. ولو لمرة واحدة؟
هل تبحث الولايات المتحدة عن حل نهائي وحقيقي ودائم للقضية الفلسطينية بعد كل هذا النزيف المؤلم الذي يحدث منذ أكثر من 70 عاما، بعيدا عن الشعارات وبعيدا عن الملفات المتكدسة على طاولة المحكمة الدولية، وبعيدا عن التصريحات الهشة الركيكة وبعيدا عن قرارات الأمم المتحدة المتطايرة في الهواء عبثا ولا يكترث لتطبيقها أيّ أحد؟
هل من نهاية لكابوس المواطنين؟ أم أننا سنُعيد هذه الضربات ورواية القصة المأساوية مرة كل بضع سنوات بشكل مؤلم أكثر وأقسى؟ أم ينتظرون فقط القضاء على مليوني فلسطيني بشكل نهائي؟ وإعادة السيناريو في الضفة مثلا؟
إلى الآن.. لا فكرة إن كانت هناك صورة واضحة للمستقبل وإن كان هناك “مستقبل” من الأساس!
هناك فرضية أنه فعلا تتم مناقشة تلك الأمور بشكل واضح في الكواليس، وهناك تصورات وبدائل وخطط ممكن الحديث عنها بشكل عملي لاحقا، لكن المخيف أكثر، أن لا يكون هناك أي تصور واقعي لمستقبل المنطقة.. لا تصور لمستقبل الشعوب.
والولايات المتحدة والمجتمع الدولي لا يملكان أيّ إجابات حقيقية لأي من كل هذه الأسئلة. بل إن الولايات المتحدة لا تكترث للإنسان، إنما فقط لأهدافها ومصالحها. تماما كما لم تكترث لأفغانستان، ولا للعراق، ولا لسوريا، ولا لأوكرانيا التي سحقتها في الهاوية ودفعت بها نحو الجحيم وحيدة!
◙ الولايات المتحدة تُعتبر الداعم الأول والرئيسي لإسرائيل، تؤثر وتتأثر بقرارات إسرائيل، وبذلك بالتأكيد ستؤثر بشكل واضح وجليّ على مستقبل الفلسطينيين والمنطقة بأكملها
وإن سألتني: لماذا يتم توجيه الأسئلة لواشنطن وبعض القوى العالمية؟ لأنها كانت شاهدة ومشاركة في المأساة ومشاركة في تغيير الواقع في الكثير من بقاع الأرض وتشكيله منذ زمن بعيد.
لذا هي واحدة من أهم الأطراف القادرة على المساعدة في إقرار واقع أفضل.. أن تُصلح ما كسرته.. أن تُشرك الفلسطينيين في رواية مستقبلهم.
من غير المتوقع إحلال حياة طوباوية في فلسطين، ولا مستقبل قريب مشرق للفلسطينيين حتى وإن هدأت الأمور أو عمّ السكون قليلا لاحقا.
فبعد الحرب سيبدأ الجميع بلملمة أشلائهم، وسيستيقظ العالم على جراح عميقة غير قابلة للشفاء، وسيتولد المزيد من ثقافة الكره والانتقام في المنطقة.
لكن ألا يجدر بدول العالم والولايات المتحدة خصوصا من تنصب ذاتها شرطي العالم، وعرّابة الحلول للقضايا، أن تكون هناك خطة لإعادة إعمار غزة ولملمة هذه الفوضى وإرجاع الحقوق لأصحابها، أن يتم إيقاف النزيف وأن لا يجد العالم حلا للقضية على حساب الفلسطينيين ودون أخذ وجودهم وحياتهم وحقوقهم بعين الاعتبار؟
في النهاية، ألا يرى هذا النظام العالمي والمجتمع الدولي بأن الإنسان في فلسطين يستحق مستقبلا طبيعيا متوازنا هادئا مثلا؟
العرب