لا يقين بزعامة بكين إن خسرت واشنطن الريادة

لا يقين بزعامة بكين إن خسرت واشنطن الريادة

الحديث عن اقتراب ساعة ميلاد نظام عالمي جديد لا يعد وليد اليوم ولا وليد زمن الوباء، بل إنه ملف مطروح على طاولة مراكز البحث والمفكرين منذ سنوات. إلا أن التبشير به مرّ إلى السرعة القصوى مع تأجج حروب معلنة بين القوى الكبرى بعدما تفشى فايروس كورونا وانتشر في الأرض. فصار الجميع يتحدّث عن هذا النظام الجديد لكن دون تحديد مرتكزاته أو رسم ملامحه ودون تحديد مسألة من سيقوده رغم الحديث بإطناب عن الدور الريادي الذي ستلعبه الصين مستقبلا. وتظل هذه الرواية الأخيرة في حد ذاتها محل شك لدى خبراء العلوم السياسية بالاستناد إلى قراءات أخرى تحدد مربّع تحركات بقية القوى المتنافسة من أجل نفس الغاية.

لندن – يمر العالم في العقدين الأخيرين مع حصول أي أزمة أو أي حدث لافت بفترة شك واضحة لدى الجميع في قدرة النظام الذي يقود العالم منذ عام 1991 على الصمود أكثر أمام المتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية. ومع بروز أي عامل أو مؤشر جديد يكثر التبشير بالنظام البديل للمنظومة الليبرالية الأميركية لكن دون الولوج إلى فهم معالمه وأركانه.

وعلى شاكلة محطات تاريخية هامة أخرى كأحداث 11 سبتمبر 2001 أو أحداث 2003 بعد غزو العراق التي غيرّت المشهد في منطقة الشرق الأوسط كونها باتت مختبرا أساسيا لتحديد موازين القوى، تحولت معركة العالم ضد وباء فايروس كورونا إلى صراعات أخرى يهدف فيها كل طرف إما إلى البحث عن موضع في النظام الجديد غير المعلوم أو إلى البحث عن انتزاع الزعامة من الولايات المتحدة.

في عام 2019 الذي كان احتجاجيا بامتياز وأشّر على بداية انهيار النظام الدولي الحالي، تحدث الكل حتى قبل ظهور فايروس كورونا عن النظام الجديد، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب يدرك حجم هذا المنزلق وعبر عن نواياه منذ صعوده إلى سدة الحكم رافعا شعار “أميركا أولا” بهدف الحفاظ على الريادة.

ولم يخف ترامب توجهه هذا ويقينه بوجود بوادر ميلاد نظام عالمي جديد، لكنه ظل يسعى جاهدا إلى أن تكون الكلمة الأولى فيه إلى الولايات المتحدة وقد ترجم كل ذلك بقوله “قررت أن أخبركم بكل ما يجري وإلى أين يتجه العالم في ظل كل المتغيرات التي حصلت طيلة 400 عام، تذكرون عام 1717 الذي كان ولادة العالم الجديد وتذكرون أن أول دولار طبع عام 1778 ولكي يحكم هذا الدولار سيكون الرابح الوحيد هو النظام العالمي الجديد، ولكي يربح هذا النظام، سنستخدم كل ما توصلنا إليه وعلى كافة الأصعدة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية” بحسب ما نقله عنه موقع ماروك ليكس الأميركي منذ شهر نوفمبر 2019 أي قبل ظهور الوباء في مدينة ووهان الصينية.

لم يكن الانزعاج الأميركي من هذه المتغيرات فقط في إطار ردّة فعل على سياسات الصين، بل كان أيضا نتاجا لخلاصة الكثير من الساسة والمفكرين المخضرمين في العالم المعاصر وعلى رأسهم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي أكّد أن العالم لن يكون مثل ما هو عليه الآن في فترة ما بعد كورونا.

وقال كيسنجر في مقال نشره بـصحيفة “وول ستريت” الأميركية “عند انتهاء جائحة كوفيد – 19، سيُنظر إلى مؤسسات العديد من البلدان على أنها فشلت، لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلا بشكل موضوعي، فالحقيقة هي أن العالم لن يكون كما كان بعد كورونا”.

وشدد كيسنجر على أن الظروف الاستثنائية المصاحبة لفايروس كورونا استدعت إلى ذاكرته شعوره عندما كان جندياً في معركة الثغرة إبان الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، إذ يطغى حالياً الإحساس بالخطر المحدق الذي لا يستهدف شخصاً بعينه، وإنما يضرب بشكل عشوائي ومدمر بنية النظام الدولي.

وعلى عكس ترامب الذي حمل مسؤولية الأزمة إما الصين أو منظمات أممية كمنظمة الصحة العالمية التي قررّ تعليق تمويلها من قبل الولايات المتحدة، يعتقد كيسنجر أن بلاده باتت في اختبار حقيقي يتمثل في قدرتها على إيقاف انتشار الفايروس، ثم إعادة الأمور إلى طبيعتها بطريقة وفي نطاق يحافظان على ثقة العالم في قدرة الأميركيين على إدارة أنفسهم وعلى زعامة العالم.

وأجبرت الحرب الكلامية بين بكين وواشنطن، بعدما اتهم ترامب الصين بصناعة فايروس كورونا في أحد مختبراتها بمدينة ووهان أين ظهر لأول مرة في موفى عام 2019، كل القراءات والتحليلات على الحديث عن تأجج حرب ثنائية ستقود إلى تركيز نظام جديد ستكون فيه الغلبة إما لواشنطن أو لبكين.

وكانت الاتهامات الأميركية من جهة والردود الصينية من جهة أخرى، بمثابة وقود حرب ستفضي إلى حسم مسألة تزعم العالم، خاصة أن واشنطن انكبت على إجراء تحقيق شامل حول مصدر الفايروس، حيث أكدت الكثير من المصادر أن الاستخبارات الأميركية تحقّق في الموضوع.

وصرّح في وقت سابق وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن بكين مطالبة الآن بالإفصاح عن كل ما تعرفه بخصوص انتشار كوفيد – 19، ملمحاً إلى مسؤولية معينة لمعهد علم الفايروسات في مدينة ووهان، حيث ظهر الفايروس أول مرة.

كل هذا حسم بحسب الكثير من المحللين أمر المعركة بين “الطرفين الأقوى” ما سيفرز في مرحلة ما بعد الوباء شكلا جديدا ومغايرا للنظام الدولي، لكن في كل هذا لم يُحسم في الوقت نفسه شكل المعركة فهل ستكون تجارية اقتصادية أم عسكرية أم تكنولوجية؟ كما لم تحسم بعد هوية المنتصر رغم الإطناب في الحديث إما عن تجذّر القوة الأميركية أو عن إرادة الأخطبوط الأحمر الصيني الناعمة والذي غرس أصابعه في مختلف دول العالم.

على عكس الفترات السابقة التي تم فيها الحديث عن النظام الدولي الجديد الذي كانت ملامحه أكثر وضوحا وتسيطر عليه أساسا الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن المشهد بعد متغيرات 2011 وكذلك بعد مرحلة الوباء بات أكثر تشعبا وأكثر تعددّا للأطراف الساعية إلى هندسة المنظومة الجديدة.

ولئن تطنب عدة قراءات في تضخيم الأدوار المستقبلية للصين بالتركيز على سياساتها وكيفية تعاطيها مع أزمة كوفيد – 19 وظهورها في شكل المنقذ لمن يستغيث من تفشي الوباء بإرسال مساعدات طبية إلى دول عديدة كإيطاليا الغاضبة على أوروبا أو إلى دول أفريقية عديدة، فإنه في المقابل توجد طروحات أخرى تذهب إلى عكس ذلك تماما.

وفي الوقت الراهن تطرح بعض المقاربات المغايرة للسائد تصورا آخر يفيد بأنه ليس بشرطه حتى وإن تحققت فرضية افتكاك الزعامة من الولايات المتحدة أن تكون الصين هي من سيقود قاطرة العالم طبقا لما يريده الحزب الشيوعي الصيني الذي وظّف أزمة الوباء على أحسن وجه.

وتمزج هذه الترجيحات تفسيراتها بتشعّب المسألة وعدم اقتصارها على طرفي نزاع مسلطة الضوء على تحركات قوى أخرى قوية أو متوسطة، إقليمية أو دولية لفرض نفسها في المعادلة الدولية الجديدة.

وكان الباحث في مركز الدراسات المستقلة، سالفاتوري بابونيس، قد خاض في هذه المقاربة الأخيرة بقوله في مقال نشر بمجلة فورين بوليسي الأميركية “القوة الصينية المتَصَوّرة في عالم ما بعد كورونا مبالغٌ في تقديرها”.

ويمضي سالفاتوري إلى القول إن كل هذا الحديث عن الحرب من المحتم أن يثير تساؤلات حول شكل عالم ما بعد الحرب، رغم اتفاقه مع آراء جميع المحللين الذين يشددون على أن فايروس كورونا سيحدث تغييرات كبيرة.

ويثير الكاتب الأميركي أيضا رأيا مغايرا حول ما سيتغير، غير مستبعد فرضية أن كل طرف من الأطرف المتصارعة يعتقد أن العالم بعد الجائحة سيُعاد تشكيله بالطريقة ذاتها التي تنبأوا بها أو حذروا منها قبل الجائحة.

وتنظر مراكز البحث والدراسات الأميركية وكذلك إدارة الرئيس الأميركي بانزعاج تام إلى المكاسب التي حققتها الصين عبر سياستها الناعمة ودعايتها السياسية في زمن الوباء في أماكن بعيدة جغرافيا عن بكين مثل أفريقيا أو أوروبا الشرقية أو حتى أميركا اللاتينية، إلا أن سالفاتوري يرى أنه عندما يتم النظر إلى المكاسب الدعائية من منظور اقتصادي، فإن أهميتها تتراجع وتبدو بسيطة كون هذه الاقتصاديات المدعومة صينيا هامشية الأهمية في منطقتها من العالم.

هناك الكثير من العوامل الأخرى التي ستجعل من مهمة الصين شبه مستحيلة خاصة في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وتحديدا فرنسا بعدما ازدادت سوءا في الأسابيع الأخيرة بسبب ما اعتبرته باريس إساءة صينية إلى سمعة العاملين في دور رعاية المسنين في فرنسا في فترة تفشي الوباء.

واستدعى وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان السفير الصيني في فرنسا، للخوض في هذه الحادثة، وقال لودريان “لا يمكنني أن أقبل بالإساءة إلى العاملين في دور رعاية المسنين من أي كان بمن فيهم السفارة الصينية، وأبلغت ذلك، ونريد أن نحترم كما ترغب الصين في أن تحترم، ولدينا علاقات تقوم على الحوار والتعاون تسمح لنا بأن نقول ما نفكر فيه”.

ورغم اعتذار السفارة الصينية وقولها إنها كانت في الواقع تستهدف إسبانيا حيث عثر الجيش الإسباني في نهاية مارس الماضى على أشخاص متوفين في دور لرعاية المسنين، وسمح رد فعل بكين بإزالة أي سوء فهم مع التشديد على ضرورة العمل معا ضمن تعددية جديدة، فإن الكثير من المحللين يعتقدون أن ليس بإمكان بكين أبدا استمالة ود فرنسا مستقبلا.

وتعد فرنسا بدورها من بين الأطراف الباحثة عن موطئ قدم في النظام العالمي الجديد أو حتى زعامته وظهر ذلك منذ صعود الرئيس إيمانويل ماكرون الذي راهن على بناء جبهة أوروبية موحدة قد تمكن من إعادة الريادة لأوروبا كي تصبح قادرة على ردع استفزازات ترامب المستمرة وافتكاك زمام المبادرة من دول الشرق.

ويُبنى حلم ماكرون على حقيقة ثابتة في ذهنه وتكمن في أن الثورة الفرنسية (1789) أفضت إلى ولادة مفهوم جديد للسلطة والدولة وأعطت المواطن قيمة ودوراً في المجتمع، الأمر الذي أرسى أسس الدولة الحديثة في ذلك الجزء من العالم وهو ما يجعلها مؤهلة لاستعادة زمام القيادة.

وتدرك باريس مختلف المتغيرات واضعة في استراتيجيتها دينامية التحولات المبنية على تجدّد النظام العالمي أكثر من مرة، آخرها بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر السوفييتي، ما أسس نظاما أحادي القطب حل محل نظام القطبين الذي تقوده الولايات المتحدة.

لكن هذه المطامع الأوروبية التي يقودها ماكرون قد تؤول بدورها إلى الفشل خاصة بعدما ظهرت بوادر تفكك خصوصا عندما أعربت إيطاليا في أكثر من مرة عن أن النادي الأوروبي تركها تصارع مصيرها وحدها خلال أزمة كورونا.

وقد تؤدي المساعدة الطارئة التي تقدمها الصين لإيطاليا في الوقت المناسب إلى تقويض شعبية الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك يمثل مشكلة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي أكثر من كونها مشكلة لحلف شمال الأطلسي. حتى أن جاك ديلور رئيس المفوضية الأوروبية السابق ذهب إلى حد وصف عدم تضامن أوروبا في ما يتعلق بفايروس كورونا بأنه خطر قاتل للاتحاد الأوروبي.

وتتجاوز المشكلات الهيكلية في الاتحاد الأوروبي التدخل الصيني، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأنه حتى انهيار كارثي للمشروع الأوروبي من شأنه أن يصب في مصلحة الصين على حساب الولايات المتحدة من ناحية الجغرافيا السياسية. وإذا كان لذلك أي تأثير، فمن المرجح أن يجعل عضوية الناتو أكثر أهمية بالنسبة إلى الأعضاء السابقين في الاتحاد الأوروبي الذين أصبحوا مثل الأيتام، وانكشفت عنهم المظلة التي كانت تحميهم.

وعلى عكس القراءات النافخة في صورة الصين توجد أيضا قوى أخرى، دولية كروسيا أو إقليمية كإيران وتركيا، تشتغل على فرضية النظام الجديد عبر حشر نفسها في أكثر من قضية وحرب كتلك التي في سوريا أو في ليبيا كونهما منطقتين استراتجيتين واحدة في الشرق الأوسط والأخرى تطل على البحر المتوسط وقريبة من أوروبا.

الحرب بين بكين وواشنطن حصرت الحديث في صراع ثنائي يقود إلى نظام جديد تكون فيه الغلبة إما للولايات المتحدة أو الصين

وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عزم حكومته على الارتقاء بتركيا إلى المكانة التي تستحقها في النظام العالمي الجديد المرتقب ظهوره عقب تفشي وباء كورونا المستجد.

وقال الاثنين في هذا السياق “سنرتقي ببلدنا في الفترة المقبلة ، من خلال الاستثمارات والأعمال والخدمات الجديدة”.

وأضاف أن تركيا نجحت في إنجاز العديد من المشاريع الضخمة خلال السنوات الـ17 الأخيرة، رغم كافة محاولات العرقلة والإفشال.

أما في ما يخص روسيا، فإنها تريد بحسب الخبراء سلك نفس النهج القائم على سلاح الحرب العسكرية بفرض نفسها كقوة لا يمكن إزاحتها عبر لعبها أدوارا محددة لمستقبل الصراعات خاصة في ليبيا.

بعيدا عن المعركة السياسية والاقتصادية والتجارية بين بكين وواشنطن، فإن روسيا والولايات المتحدة ما زالتا تراهنان على مواصلة الحرب الثنائية بمنطق آخر قوامه الصراع العسكري غير المباشر في دول أخرى.

وفي هذا الصدد، أكد تقرير آخر صادر عن موقع فورين بوليسي أن الولايات المتحدة وروسيا عرقلتا سرا جهود الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش وحلفاء غربيين رئيسيين، التي تهدف إلى تشجيع وقف شامل لإطلاق النار، عبر حث جميع الدول والجماعات المسلحة على إسكات الأسلحة، وتكريس طاقاتها لمحاربة جائحة فايروس كورونا.

ووفقا لمقابلات مع عدة مصادر دبلوماسية فإن كلا من واشنطن وموسكو أكدتا لنظرائهما أنهما يفضلان وقف إطلاق النار في مناطق النزاع، من ليبيا إلى سوريا واليمن. لكن الحكومتين تتخوفان من أن وقف إطلاق النار الشامل، من المحتمل أن يحد من جهودهما الخاصة في تصعيد ما تعدانه عمليات مكافحة الإرهاب المشروعة في الخارج وهو ما يعتبره مراقبون تعلة غير مبررة هدفها مواصلة حرب النفوذ.

العرب