إسطنبول – باتت مدينة إسطنبول مركز عمليات متقدمًا في صياغة إستراتيجية الغزو الثقافي التركي في المحيط العربي من بوابة تجميع المئات من الصحافيين العرب، وفتح العشرات من القنوات والمواقع الهادفة إلى التأثير في الشارع العربي وخلق أرضية لتقبل العثمانية الجديدة التي فشلت لسنوات في التسلل من خلال توظيف الجماعات الإسلامية لبسط النفوذ التركي عبر السطو على “الربيع العربي”، فلجأت إلى خطاب التأثير الناعم من بوابة الإعلام.
وفيما يقبع العشرات من الصحافيين والمئات من نشطاء حقوق الإنسان والسياسيين المعارضين الأتراك في السجون بسبب أفكارهم، تفتح تركيا مجالا واسعا أمام هجرة الصحافيين العرب إلى إسطنبول كمركز استقطاب وتقديم الإغراءات والإنفاق بلا حساب لفتح قنوات تلفزيونية ومواقع كثيرة لتشغيلهم.
ويورد تقرير لموقع يني شفق التركي إحصائية عن وجود أكثر من 3 آلاف إعلامي عربي يعملون في العشرات من المواقع الإلكترونية والفضائيات والمحطات الإذاعية الناطقة بالعربية.
ويأتي الفلسطينيون في المرتبة الأولى، إذ يبلغ مجموع العاملين في قطاع الإعلام والصحافة في تركيا نحو 900 إعلامي فلسطيني، ثم يأتي المصريون والسوريون والعراقيون واليمنيون ودول المغرب العربي.
ومن أبرز الفضائيات العربية التي تتخذ من إسطنبول مقرا لها، قنوات الشرق (مصر)، مكملين (مصر)، تلفزيون وطن (مصر)، جسر (سوريا)، بلقيس (اليمن)، الرافدين (العراق)، أحرار ليبيا (ليبيا)، نبأ (ليبيا).
وبات عمل هذه القنوات سهلا في ظل الدعم المالي السخي وتوفر مراكز بحثية وأنشطة سياسية ومؤتمرات لمعارضين عرب من دول مختلفة. ولن يكون صعبا على أي قناة أن تأتي بمتحدثين لاستهداف هذه الدولة العربية أو تلك، أو الترويج للتدخل التركي في سوريا وليبيا، أو لحكومات يسيطر عليها الإخوان المسلمون مثل تونس واليمن، ما يجعل العمل في مدينة إسطنبول أسهل وأرخص من الاشتغال في لندن التي ظلت لعقود مركز الإعلام العربي في المهجر، والتي لم تحتضن في عزها 15 قناة و50 موقعا.
ويقول متابعون للشأن التركي إن تركيا تستعيد تجربة قناة الجزيرة القطرية التي فتحت أبواب الانتداب أمام العشرات من الصحافيين العرب برواتب مغرية، وأغرتهم بـ”الحياد” و”الرأي والرأي الآخر”، ليجدوا أنفسهم في صف أجندة معادية لدولهم، وبعضهم تحول إلى معارض رغم أنفه.
ولفت المتابعون إلى أن أجندة أنقرة، التي توظف الأموال القطرية في تمويل الأعداد الكبيرة من الصحافيين العرب، تختلف تماما عن أجندة الدوحة، التي عملت من خلال “الجزيرة” على لعب دور أكبر من حجمها وحولت القناة إلى وسيلة لاستهداف أمن جيرانها.
لكن تركيا، وفق هؤلاء المتابعين، تنفذ إستراتيجية أكثر خطورة، حيث تهدف إلى خلق جمهور واسع من المتقبلين لإحياء فكرة السيطرة التركية في المنطقة العربية، وذلك بتلبيس فترة الحكم العثماني لبوسًا دينيّا واستدعاء بطولات وهمية لشخصيات تاريخية تنتمي إلى قبائل تركية وتقديمها كرموز للجهاد وتوحيد المسلمين، وهو ما تروج له مسلسلات تركية تاريخية مدبلجة إلى العربية، تلقى تساهلا رسميا في عدة بلدان عربية ورواجا للتغطية على غياب المسلسلات العربية القادرة على شد انتباه المشاهدين.
وإذا كان الوجه السياسي هو الأبرز في الأجندة التركية تجاه المنطقة العربية، فإن الهدف بعيد المنال هو التطبيع مع الثقافة التركية، وخلق “قابلية للاستعمار” القديم الجديد، الذي يتجاوز استعادة النفوذ العسكري والسياسي إلى بناء إمبراطورية جديدة في مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية القديمة.
وقال مهند الحاج علي، زميل في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، “تتطلع تركيا بشكل متزايد نحو الشرق، بعيدًا عن شركائها في الناتو، الذي يشكل مجال نفوذها القديم خلال الإمبراطورية العثمانية”.
وأضاف الحاج علي في تصريح لصحيفة “أوبزيرفر” البريطانية “يمكن رؤية تأثيرها الثقافي في جميع أنحاء الشرق الأوسط اليوم: هناك ترجمات عربية جديدة للشعر التركي، وتصدر الروايات عن المدينة باللغة العربية. وخلال العقدين الماضيين رأينا شكلاً قويّا للجسر الثقافي”.
وتسعى إسطنبول إلى سرقة الحماسة القديمة التي كانت تجذب الناس إلى القاهرة وبيروت، والتي تتعلق بوفرة الإنتاج والتسويق الإعلامي.
ويعيش في إسطنبول، التي يبلغ عدد سكانها 17 مليون نسمة، نحو مليوني عربي قاموا بفتح المقاهي ومحلات الكتب وشركات المسرح والإعلام، وانضموا إلى موظفي الجامعات.
وبفضل نظام التأشيرات السخي الذي تعتمده تركيا وموقعها كمحور للانتقال، أصبح الالتقاء في إسطنبول أسهل على العائلات الموجودة في جميع أنحاء العالم منه في أي مكان آخر.
لكن التسهيلات لوسائل الإعلام والمنتجين لا تقدم آليا لمن يطلبها، بل هي خاصة بالذين ينفذون الأجندة التركية، وأغلبهم من الإخوان المسلمين، وبعض المثقفين والإعلاميين الذين يقدمون جمع المال على ما سواه. لكن من يبحث عن تقديم برامج وأفكار مختلفة، فلن يجد سوى العراقيل مثل أحمد حسن، المصور السينمائي المصري.
ويمثل حسن، الذي عمل في فيلم “ذا سكوير”، وهو فيلم وثائقي مشهور عن ثورة مصر عام 2011، وجاء إلى إسطنبول من القاهرة قبل عامين، مثالا للعربي الذي وجد أن العنصرية والحواجز أمامه.
وقال المصور السينمائي المصري “إسطنبول مثل البطيخة الجميلة من الخارج، ولكن عندما تأخذ قضمة، لا تجد لها طعمًا مميزًا. ولازلت أنتظر حتى الآن حتى أتذوق طعم السكر”.
وفي مقابل الغزو الثقافي التركي الذي يتسع من يوم إلى آخر، فإن الردود العربية شبه غائبة إعلاميا وثقافيا، ويكتفي أغلب المسؤولين الإعلاميين بالصمت أو اللجوء إلى حجب بعض المواقع التركية، وهي خطوة لا تكفي، ويحتاج الأمر إلى إستراتيجية تقوم على إظهار حقيقة الأجندة التركية، مثل مسلسل “ممالك النار”، الذي أحدث صدمة كبيرة في تركيا.
ورغم أنه محدود الحلقات، فقد وضع المسلسل التاريخ العثماني تحت مجهر النقد، وأثار موجة غضب تركية لأنه دخل منطقة يريد الأتراك أن تظل خاصة بهم، وهي الإيهام بفضل القبائل التركية على الإسلام بينما تحقر التاريخ العربي والإسلامي الآخر، وتظهر الأتراك في صورة الأنبياء الأتقياء فيما العرب وملوكهم وأمراؤهم وقبائلهم خونة ومتقاعسون عن خدمة الدين.
وفيما تعمل أنقرة على “تتريك” العرب ثقافيا من خلال وسائل إعلام موجهة إلى المنطقة، فإننا لا نكاد نجد وسائل إعلام عربية موجهة إلى الأتراك بلغتهم عدا موقع “أحوال تركية” الذي يلقى تفاعلا كبيرا في الساحة التركية بسبب المصداقية والنقد الهادئ، وخاصة بسبب نجاحه في كشف حقيقة إستراتيجية الرئيس رجب طيب أردوغان في التدخلات الخارجية وتأثيرها على حياة الأتراك.
العرب