الخيار الأخير كان الخيار الأول الذي جرى استبعاده لتجريب محمد توفيق علاوي ثم عدنان الزرفي: تكليف رئيس الاستخبارات العراقية مصطفى الكاظمي تأليف الحكومة، لكن العودة إلى الخيار الأول كانت بالاضطرار بعد مناورات اللعب في “البيت الشيعي” والتململ في “البيت السني” و”البيت الكردي” وحسابات اللعبة المعقدة بين أميركا وإيران، وليس أمراً قليل الدلالات التسليم بالرجل الذي قيل إنه “رجل أميركا” وتراجع الميليشيات المرتبطة بإيران عن اتهامه بالمشاركة معها في اغتيال قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني.
ظروف الكاظمي
والسؤال هو: هل تخدم الظروف الكاظمي في فعل ما لم يرد نوري المالكي فعله خلال ثماني سنوات في رئاسة الحكومة، ولا استطاع فعله حيدر العبادي خلال أربع سنوات، ولا كان من المأمول، إلا في الأحلام، أن يفعله عادل عبد الهادي؟ وإلى أي حد يستطيع الرجل إقامة منطقة رمادية وطنية عراقية بين النفوذين الأميركي والإيراني على أرض الرافدين؟
في برقية ديبلوماسية إلى الخارجية الأميركية قال ريان كروكر وقت كان سفيراً في بغداد “الحرب العراقية الإيرانية لم تنته بالنسبة إلى سليماني”، وبعد اغتيال سليماني خلافاً للأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس جيرالد فورد عام 1976 بمنع الاغتيال السياسي، قالت نرجس باجوقلي أستاذة دراسات الشرق الأوسط في جونز هوبكنز “موت سليماني لن يغير شيئاً لأن أسلوب العمل في فيلق القدس، كما اختبرته عن كثب، جماعي وليس معتمداً على شخص واحد”.
وها هي أميركا توحي إلى أن مهمة سليماني في العراق يكملها خليفته في قيادة فيلق القدس إسماعيل قاآني والشيخ اللبناني العراقي المسؤول في “حزب الله” محمد كوثراني الذي رصدت واشنطن 10 ملايين دولار لمن يقدم معلومات تقود إلى اعتقاله أو اغتياله، أي أن أميركا اغتالت رجل المشروع الإيراني، لكن المشروع مستمر.
السيادة خط أحمر
الكاظمي بدا مدركاً ما عليه فعله وما يمكن أن يعرقله: “سيادة العراق خط أحمر، السلاح كل السلاح من اختصاص الدولة، العراق لن يكون ساحة لتصفية الحسابات، الانفتاح الجاد على المحيطين العربي والإسلامي ضمن المصالح المشتركة، والجدية في إنهاء مظاهر الوجود الأجنبي غير المبرر”.
ومن الطبيعي أن يكون الحراك الشعبي ضد الفساد الداخلي والنفوذ الخارجي وعلى يد الشباب الشيعي بشكل خاص في كربلاء والنجف والناصرية وبغداد من العوامل المساعدة له، وهناك من يرى أن مجرد التسليم بالكاظمي إشارة إلى أن طهران تريد تخفيف التوتر في الصراع مع واشنطن التي تريد الأمر نفسه في هذه المرحلة لأسباب داخلية تتعلق بحسابات الرئيس دونالد ترمب الانتخابية.
وهذا ما يمكن قراءته بين السطور في كلام وزير الخارجية مايك بومبيو المتكرر عن “الضغط الأقصى” من دون الذهاب إلى حرب لوضع إيران أمام خيار محدد “التوقف أو الإصرار على السياسات التي قادت إلى العقوبات” مع التأكيد “أن التصعيد تجارة خاسرة”، والظاهر أن تبادل التهديدات بإغراق السفن شيء، وديبلوماسية السياسة شيء آخر.
العراق في وضع صعب
لكن العراق في وضع صعب جداً بين التداخل القوي مع طهران والحاجة إلى أميركا وقواتها التي تقصفها الميليشيات الموالية لإيران بالصواريخ، ومعادلة “لا تقدم تنازلات كثيرة لطرف ولا تغضب طرفاً آخر” التي يبدو الكاظمي مؤمناً بها هي عملية تحتاج إلى “أكروبات”، للسير على حبل رفيع مشدود، فضلاً عن أن التجارب العملية في لبنان والعراق بين أميركا وإيران والعرب أكدت أن الحفاظ على التوازن بين قوى خارجية هو أمر خطير جداً حين تحاوله سلطة بلا قوة ذاتية، ومن الصعب تصور جمهورية الملالي التي استثمرت الكثير على حساب رفاه شعبها من أجل مشروعها الإقليمي، أن تتخلى عن الإمساك بالعراق وسوريا ولبنان لكي تخفف أميركا عقوباتها الشديدة، والسؤال هو: هل تبقى أميركا ثابتة على السياسة التي تعلنها، وهي “أن مواجهة إيران شرط لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط”؟ وهل تأخذ الإدارة الحالية أو أي إدارة مقبلة برأي دانيال سنام من “مركز التقدم الأميركي” القائل إن سياسة أميركية ناجحة” يجب ألا تعامل العراق كساحة معركة مع إيران بل كشريك مهم يبقى استقراره في مصلحة أميركا” لا بل يرى أن المطلوب “مقاربة أكثر حكمة هي الاستثمار في الوطنيين العراقيين ورؤية الشباب الذي يطالب بالإصلاح ويتحدى رصاص الميليشيات التابعة لإيران، لا مجرد النفط والتغلغل الإيراني”.
وبداية الامتحان أن يطبق مصطفى الكاظمي وعده بحماية “حقوق المتظاهرين ومطالبهم”، ضمن إيمانه بأن “العراق بلد عريق ويمتلك قراره السيادي”، لكن حسابات الداخل والخارج تتشابك في مواد الامتحان.
اندبندت عربي