العراق الخليجي

العراق الخليجي

في ربيع 1980، وقبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر 1980 بأشهر قليلة، بدأت الأخبار تتحدث عن اتفاق دول الخليج العربية، الكويت، البحرين، قطر، الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان، على تأسيس مجلس التعاون الخليجي. وفي مايو 1981 تم التوقيع على وثيقة المجلس وعُرفت أهدافُ طبيعته بوضوح.

في ذلك التاريخ كان صدام حسين في نية إلغاء اتفاقية الجزائر التي عقدها مع شاه إيران عام 1975 في الجزائر، والمغامرة بمهاجمة إيران لاستعادة سيادة العراق على كامل شط العرب، واسترجاع أراضٍ كانت عراقية كالمحمرة والأحواز، معتقدا بأن الوقت مناسب لذلك بحكم الفوضى الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية التي اجتاحت إيران بمجيء الخميني، معتقدا بأن أزمة رهائن السفارة الأميركية ستجعل الولايات المتحدة تسارع إلى تأييده ودعمه. (مذكرات صلاح عمر العلي مندوب العراق الدائم في الأمم المتحدة، وخصوصا حديث صدام معه في هافانا، في سبتمبر 1979).

وقد وجد صدام، يومها، في مشروع مجلس التعاون الخليجي المقترح فرصة جيدة، إذا ما انضم إلى ذلك المجلس. فهو بمواصفاته القيادية، وبحجم العراق العسكري والاقتصادي والسياسي، وبموقعه الجغرافي، سوف يصبح اللاعب الأقوى داخل المجلس، وسيزيده ذلك قوة ونفوذا، ويعزز مكانته الإقليمية والعربية والدولية، خصوصا حين تضاف ثروات دول الخليج الهائلة إلى ثروات العراق.

وتبعا لذلك صدرت، يومها، تعليمات سرية حزبية وحكومية مشددة من صدام للكادر المتقدم في حزب البعث، وللمسؤولين في أجهزة الإعلام والسياحة، وخصوصا في وزارتي الخارجية والداخلية، تأمرهم بالترويج لطبيعة العراق الخليجية، باعتباره دولة مطلة على الخليج، وإبراز أوجه التشابه العديدة مع شعوب الخليج العربي والروابط المشتركة في التاريخ والعادات والتقاليد، والتبشير بفكرة أن انضمام العراق القوي إلى مجلس التعاون الخليجي سيضاعف قوته وهيبته، ويجعله أقدر على ردع أيّ قوة معادية، وبالأخص نظام إيران الجديد.

ويتحدث مواطنون خليجيون زاروا العراق في تلك الفترة عن حفاوة خيالية لا حدود لها كانوا يفاجأون بها أينما ذهبوا، خصوصا من المسؤولين والموظفين الحكوميين.

ويتذكرون كم كانوا يسمعون ممن يقابلونهم أنهم “أولاد عمّ، وأن البلد بلدُهم”، و”كلنا خليجيون، وأشقاء، وشعب واحد”.

ولكن دول الخليج الستّ تلكأت في قبول انضمام العراق إلى المجلس. ولكن لتفادي إزعاج صدام وعدم تعكير صفو العلاقات الإيجابية المتينة معه فقد ارتأت منح العراق العضوية في بعض لجان المجلس غير السياسية، ومنها الرياضة والإعلام والصحة والثقافة، على أمل توسيع هذه العضوية في قادم الأيام.

والظاهر أن دول الخليج، وخاصة السعودية والكويت، رغم علاقتها الحميمة والمتينة والراسخة مع صدام حسين، لم تكن مقتنعة بضم العراق، في ظل حكم صدام وحزب البعث، بحكم عدم التجانس الكامل بينه كشخص وبين قادة الخليج، وبين طبيعة المجتمعات الخليجية وأنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وبين طبيعة النظام العراقي المعروف عنه أنه نظام بوليسي حزبي وينادي بالاشتراكية والثورية المتشددة.

ربما تكون البصرة وما حولها الأقرب إلى الشخصية الخليجية، ولكن باقي العراق، صعودا، يفترق كثيرا عن طبيعة المجتمعات في دول الخليج العربية بشتى الأوجه والمجالات والميادين.

ولم يطلْ الزمن كثيرا حتى انتهت الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، ليجد الخليجيون أن خطاب النظام العراقي الخليجي الذي كان يخاطب القادة والمواطنين الخليجيين بـ”أولاد العمّ”، قد اختفى، وبدأت اللغة تتغير إلى حدّ بعيد.

والسؤال الآن، ماذا كان سيحدث لو قبلت دول الخليج الست بضم عراق صدام حسين إلى مجلس التعاون الخليجي حين كان غارقا إلى أذنيه في حربه الضروس مع النظام الإيراني، وفي عز حرج موقفه العسكري المتدهور، وإصرار الخميني الحازم والحاسم على مواصلة الحرب، ورفض وقف إطلاق النار؟

أما كان هذا الانضمام سيغير طبيعة الحرب ويعجل بنهايتها، وسيجعلها عربية إيرانية، لا عراقية إيرانية، ويحرج حافظ الأسد ويحمله على تخفيف انغماسه في الانحياز إلى إيران، وهو الذي كان يتلقى من دول الخليج مساعداتٍ وهبات كبيرة ومستمرة تغطي جزءا كبيرا من احتياجاته، ناهيك عن الدعم السياسي الذي كانت تقدمه له في لبنان وفي مواجهة إسرائيل وفي إدارته للملف الفلسطيني؟

كما أن ذلك كان سيضطر الدول الكبرى، وخاصة أميركا وأوروبا والصين، إلى حسم موقفها من الحرب، والعمل على التعجيل بإنهائها وليس إدانتها، وذلك حفاظا على مصالحها النفطية والاقتصادية والعسكرية الاستراتيجية الواسعة التي تُعتبر دولُ مجلس التعاون الخليجي أهم مواطنها الثابتة الحيوية المهمة.

وبشكل أو بآخر كان ذلك سيجعل الخميني أقل إصرارا على مواصلة الحرب، وأكثر استعدادا لقبول وقف إطلاق النار.

فلو توقفت الحرب في العام 1981، ولم تستمر حتى 1988، أما كان قد تغير وجه العراق والمنطقة ومصيرهما، ولم تخسر شعوب العراق وإيران والخليج والمنطقة ما أُهدرَ في سنوات الحرب الثماني من دماء وأموال وجهود.

فقد تسلم صدام حسين رئاسة العراق عام 1979 وفي الخزينة فائض من العملة الصعبة يبلغ 152 مليار دولار. وخرج من الحرب والعراق مدين بما يقرب من 300 مليار دولار، أنفَق القسمَ الأكبر منها على شراء الأسلحة من الأسواق السوداء العالمية، بأضعاف أسعارها، وعلى اضطراره لإقناع حكومات عربية معينة بتوقيع عقود تلك الأسلحة بأسمائها وتوريدها إلى موانئها ثم إعادة نقلها إلى العراق، مع ما يستدعي ذلك من هدر أموال أخرى طائلة. بالإضافة إلى ما أنفقه على شراء دعم رؤساء دول وحكومات وأحزاب وأجهزة إعلام.

يضاف إلى كل ذلك ما خسره الشعب العراقي والجيش من خيرة ضباطه وجنوده، مع تقدير حجم الخراب الذي ألحقته الحرب بالمجتمع العراقي الذي يدفع المواطن العراقي ثمنه، اليوم، وسيبقى يدفعه إلى زمن قادم بعيد.

ولو حدث وانضم العراق إلى مجلس التعاون الخليجي، فقد كان مؤكدا جدا، أن كارثة غزو صدام للكويت لم تكن لتحدث، وتبعا لذلك لم تكن حرب إخراجه بالقوة من الكويت قد وقعت، ولم يكن الحصار الاقتصادي الخانق قد فرض عليه وأسس لسقوطه في النهاية.

ولكانت أميركا قد عجزت عن غزو العراق عام 2003 بالصيغة التي تم بها، ولكانت بالتالي، لم تسلمه إلى إيران وتؤسس لحكم المحاصصة وتضع هذه الشلل الفاسدة الفاشلة الحالية على رأس الحكم فيه لتعيده عشرات السنين إلى الوراء.

العرب