بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير (شباط) 2005 وتوجيه الاتهام إلى النظام السوري بالوقوف وراءه، انشغلت قيادة النظام الإيراني بمتابعة تداعيات هذا الاغتيال والاتهام، وتدارس السيناريوهات التي قد تواجهها للحفاظ على ما تعتبره العمق الاستراتيجي لها في الإقليم، والحدّ من الآثار السلبية لأي خطوة قد تُضطَّر إلى اتخاذها مباشرة أو عبر حليفيها السوري أو اللبناني.
القيادة الإيرانية كانت تتوقع أن يظهر النظام السوري مقاومة أمام الضغوط الدولية، التي ازدادت وارتفعت وتيرتها مترافقة مع تصعيد داخلي لبناني، وأن لا ينصاع إلى المطالب الدولية والمحلية اللبنانية المطالبة بانسحاب قواته من لبنان وتفكيك التركيبة الأمنية والسياسية التي أرسلها وكرّسها على مدى عقود. من هنا، جاءت خطوة التظاهرة التي دعا إليها “حزب الله” تحت عنوان “شكراً سوريا”، في 8 مارس (آذار) من ذلك العام، في محاولة لتوجيه رسالة إلى دمشق بإمكانية المحافظة على الوضع على الساحة اللبنانية كما في السابق من دون أي تغيير جذري. بالتالي، العمل على استيعاب الانتفاضة الشعبية التي سادت الشارع اللبناني نتيجة عملية الاغتيال، مستفيدةً من تردّد دولي، خصوصاً أميركي بعد تظاهرة 8 مارس، بشأن إمكانية إحداث تغيير في الوضع اللبناني والتأسيس لمرحلة جديدة مختلفة في معطياتها عن المرحلة السابقة.
إلّا أنّ تطوراً حصل بعد الحشود الشعبية التي استطاعت القوى والأحزاب المعارضة للهيمنة السورية جمعها في 14 مارس، أسهم في إدخال تعديل على موقف الإدارة الأميركية، التي وجدت في الحالة الشعبية التي استجدّت مفاجأة قلبت الموازين السياسية. الأمر الذي ساعد في تكثيف الجهود لممارسة مزيد من الضغوط على النظام السوري ودفعه إلى تقديم تنازلات قاسية لا تقف عند حدود اتخاذ قرار الانسحاب من لبنان فقط، بل تتعدّاها إلى تنازلات سياسية وإقليمية أشد قسوة، تؤسّس لمرحلة جديدة في المنطقة، على الأقل، ضرب رأس الجسر الذي أقامته طهران للوصول إلى مياه البحر الأبيض المتوسط والحدود مع إسرائيل. بالتالي، إعادة الدفع باتجاه تطبيق القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي رقم 1559، الذي طالب بانسحاب سوري ونزع سلاح الميليشيات المسلحة، وهو قرار يستهدف “حزب الله” تحديداً.
هذه التطورات دفعت النظام الإيراني إلى تكثيف اتصالاته مع دمشق في محاولة لتصليب موقف النظام فيها وقطع الطريق على تراجعات وتنازلات دراماتيكية قد يعمد إلى اتخاذها، من خلال تكثيف الاتصالات الدبلوماسية التي جاءت بالتوازي مع انتقال مسؤولية الملف الإقليمي في فيلق القدس التابع للحرس الثوري إلى الجنرال قاسم سليماني بالتنسيق مع قيادة “حزب الله” في لبنان.
على الرغم من كل هذه الجهود والإجراءات، التي بذلتها طهران وحليفها اللبناني، إلّا أنّ قرار الرئيس السوري بشار الأسد بالانسحاب الكامل للقوات السورية من لبنان شكّل مفاجأة وصدمة لصناع القرار الإيراني. وقد حاولوا إقناع الأسد بعدم اتخاذ مثل هذا القرار، وأن يذهب إلى خيار لطالما رفض تنفيذه منذ التوقيع على اتفاق الطائف والقاضي بإعادة نشر قواته وسحبها من العاصمة وتجميعها في منطقة البقاع اللبنانية، شرق بيروت وبالقرب من الحدود السورية وأن اللجوء إلى هذه الخطوة يساعد في تنفيس الاحتقان الداخلي اللبناني ويسهم في تخفيف الضغوط الدولية على دمشق، على أن يعمد النظام وبمساعدة طهران إلى إعادة ترتيب أوراقه من جديدة، مستفيداً من بقاء قواته داخل الأراضي اللبنانية.
وقد أخذ المسؤولون الإيرانيون حينها على الرئيس السوري أنه ذهب إلى قرار الانسحاب من دون التشاور مع طهران، بالتالي فإنّ التطورات التي ستترتّب على ذلك ستكون أكثر صعوبة، وقد برز ذلك خلال الجهود التي بذلتها طهران لإقناع بعض الأطراف الدولية، خصوصاً الجانب الفرنسي، بالذهاب إلى تشكيل محكمة عربية أو إسلامية من دول منظمة العالم الإسلامي للتحقيق في عملية اغتيال الحريري واستبعاد خيار محكمة دولية تحت إشراف مجلس الأمن وما يمكن أن تؤدي إليه من إشكالات وتعقيدات كان بالإمكان تفاديها.
وقد راقب النظام الإيراني سلسلة مواقف النظام السوري بعد قرار الانسحاب، خصوصاً ما يتعلّق بالاتصالات التي أجراها مع أطراف أميركية، وتحديداً مع الحزب الديمقراطي بشخص رئيسة الكونغرس نانسي بيلوسي في محاولة لإحداث خرق في موقف إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، فضلاً عن الاتصالات التي كان يجريها مع دول عربية معنيّة بالشأن اللبناني، بعيداً من التنسيق مع طهران. وقد أبدت هذه القيادة انزعاجاً واضحاً من محاولات الأسد تقديم أوراق اعتماده إلى الوسط العربي، تحديداً في خلال القمة العربية التي عُقدت عام 2007، واعتبرتها تصرفات غير مقبولة ولا تخدم صالح التحالف القائم بينهما، خصوصاً في ظل العبء الكبير الذي تحمّلته طهران من أجل إعادة اعتبار النظام السوري على الساحة الدولية، لا سيّما من البوابة الفرنسية كناقل رسائل غربية في الملف النووي، فضلاً عن جهود الحفاظ على وضعه السياسي في لبنان في إطار اتفاق الدوحة.
وعلى الرغم من هذه الصدمة في العلاقة التي أخذت بعدها الاستراتيجي بعد عام 2005 بين البلدين، إلّا أنّ طهران عملت على الفصل بين المسار السياسي في هذه العلاقة التي راهنت إيران على الانتكاسات التي ستواجهها مواقف النظام السوري على هذا المسار مع العواصم العربية والغربية، وبين المسار العسكري الاستراتيجي، ما أدّى إلى استمرار التنسيق العسكري والتعاون المتقدم بين أقطاب المحور الثلاثة (إيران وسوريا و”حزب الله”)، الذي تبلور في حرب يوليو (تموز) 2006 بشكل كبير، وتكرّس لاحقاً بعد الانتفاضة الشعبية التي اندلعت سلمية في مارس 2011 ثم استطاع عسكرتها، بحيث لعبت طهران وحلفاؤها دوراً أساسياً ومحورياً في تثبيت النظام واستمراره، وقلب المعادلة لصالحه بعدما كان على شفير السقوط.
حسن فحص
اندبندت عربي