2015-08-13
تعارف أرباب العلوم الاجتماعية على أن تخصص الإدارة العامة فرع من فروع علم السياسة أكثر مما هو فرع من فروع علم الإدارة، وكذلك تعارف أرباب الأعمال ورجال الاقتصاد على أن التجارة في الخدمات مجال تجاري أوسع بكثير من مجال التبادل السلعي وتوريد المواد الخام أو المصنعة.
وتطور هذا الفهم على أرض الواقع حتى صارت تجارة الخدمات أوثق صلة بالتجارة من تجارة بعض المصنوعات التي تفرض طبيعتها أن تنتقل من مصنعيها مباشرة إلى من يستخدمونها من دون وجود أسواق تقليدية للشراء والعرض والمساومة والمزايدة اكتفاء بما أصبحت تؤديه باقتدار معارض دورية متقدمة ومتخصصة و”كتالوجات” الإنترنت.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا توريدات الطائرات بكافة طرازاتها، وقد أصبحت هذه الأسواق نفسها طرازا بارزا من طرز مستحدثة لتجارة الخدمات.
على صعيد السياسة والعلاقات الدولية، مسيطرا على الرغم من كل التناقض مع المعادلات الوطنية والإقليمية والبيولوجية والتاريخية، حتى إن هذا النظام (بتركيبة مرسومة سلفا) تمكن من النجاح في تقديم نموذج استثماري مطلوب بشدة وإلحاح للقوى الإمبريالية ثم للنظام العالمي الجديد.
وحين ننظر اليوم وبعد اليوم للسر في هذا البقاء الإجباري، فإننا سنكتشف أن أو الكيان الصهيوني، أيا ما كان اسمه.
ومن ثم حق لهذا النظام أن يحظى من الدعم الحقيقي بما يتناسب مع هذه الخدمات المؤكدة التي تصنف علميا تحت بند تجارة الخدمات، والتي تبدو كأنها “بزنس” أو إدارة أعمال ومشروعات، بينما هي إدارة عامة، بل إدارة دولية عامة.
ومن الإنصاف للعلم والبحث العلمي، أو بالأحرى لمكانتنا المرجوة في كليهما، أن نعترف لهذا النظام بالحرفية البالغة حد العبقرية في تقديم وتسويق هذه الخدمات الجليلة من زاويتها الأخرى تقديما ارتقى به (عن حق في كثير من المراحل) إلى مكانة قومية أو فكرية مرموقة، ولم يكن هذا بلغة التجارة العميقة إلا نوعا من تغليب إنجاز البيع على إنجاز الشراء مع أن العمليتين متلازمتان، بل تتمان معا في الخطوة نفسها.
ولا يمكن لنا أن نعدد في مثل هذا المقال الوجوه الظاهرية الجميلة والشائقة والوجوه الباطنة المؤذية والشائكة عبر ممارسات نظام الأسد لسياساته الممتدة من خمسين عاما، فذلك أوسع بكثير من مجال هذا المقال ومساحته، لكننا مع هذا نستطيع أن نتأمل بسرعة بعض هذه الثنائيات التي أجاد نظام الأسد تضفيرها، بحيث استحق عليها تقديرا عميقا غير معلن من ملك الغابة العالمية، واستحق عليها أيضا وفي الوقت ذاته تقديرا معلنا وحماسيا صادقا من أسود الحركات المقاومة والفدائية من دون أن يعنى هؤلاء بتأمل آفاق اللعبة الدولية، سواء أجاءت عدم عنايتهم عن قصد مقصود أم عن تغييب مقصود أيضا.
وهذه أمثلة أربعة فحسب:
1- دخل الأسد لبنان في منتصف السبعينيات فبدا كأنه رجل المنطقة القوي القادر على فرض النظام بين قوى متناحرة تتمنى كلها النظام والاستقرار ولا تقدر عليه، وأعجب بعض الناس بالرجل الذي لم يأبه بأميركا أو بإسرائيل، وتخطى حدود بلاده، وتجاوز الخطوط الدولية الحمراء، بينما كانت الحقيقة المرة أنه دخل بموافقة أو بأمر أميركي (متفهم ومنسق إسرائيليا).
ولا فرق بين المصطلحين فالمؤدى واحد وهو إضعاف الوجود السني في بلد ذي أغلبية مسلمة، لكن المعادلات الدولية اتفقت ظلما منذ الأربعينيات على تزوير هذه الحقيقة من أجل حاجتها إلى تجديد متكرر لفرصة تكرار الإفادة من استثمار استقطاب صناعي طائفي مضمون.
2- قاد حافظ الأسد مع حسني مبارك الجناح المناهض لصدام حين غزا الكويت، فبدا النظام السوري أميل للحكمة وللأعراف الدولية، بينما كانت الأمور تسير في طريق بدء دفن فكرة القومية العربية (بعد أن استنفدت دورها الفاشل في القضاء على الإسلام) ومن ثم أصبحت الحاجة ملحة إلحاحا شديدا إلى تفتيت حزب البعث نفسه بقيادة قومية قديمة تركت سوريا للعراق المتصدع، وبقيادة قطرية سورية تولت تحطيم العراق والبعث العراقي الواعد على ثلاث مراحل متتالية وكأن وحدة الفكر لا تقود إلا إلى قتل الأخ قبل العدو.
ولم تكن هناك في نظر العرب المحليين حاجة بيولوجية ظاهرة لتفتيت البعث، لكن البيولوجيين الأميركيين المعنيين بالفكر البشري كانوا يوقنون بأن التطور الطبيعي لحزب البعث سيمضي به حتما إلى أن يكون حزبا إسلاميا سنيا قويا (وطليعيا كذلك) بكوادر متميزة وخبرة عملية غير منكورة، وقد تكفل نظام الأسد بتقزيم حركة وحزب البعث إلى جماعة منتفعين حريصة على مكاسب وامتيازات فحسب.
3-منح الأسد وبدأب كثيرا من المنظمات الفلسطينية ما رفضت مصر العربية منذ عهد عبد الناصر أن تقدمه من وجود على أرضها للفلسطينيين (أو للفدائيين) على الرغم من رفع عقيرة الإعلام الناصري (وحتى المباركي) وخطابه السياسي بفضله المبالغ فيه على هذه القضية.
ومع هذا، فإن وتشجيعه للتأطير في أوقات كثيرة كانت إسرائيل تستثمر فيها التأطير المحدد مصورة له على أنه تعنت، ومن ثم فقد صبت سياسات الأسد في وعاء كبير يستهدف حرمان الفلسطينيين من المكاسب، وفي تكريس الأوضاع التي لم يكن لإسرائيل هدف أعظم ولا أجدى ولا أكثر نفعا من استثمارها.
4- نجح الأسد بأدائه هو نفسه وبشخصه في موقعه القيادي في أن يصيب الأداء المصري قبيل حرب 1967 وفى أثناء تلك الحرب بأقصى درجات الاضطراب المتسبب في الفشل الساحق، ولم يكن هذا في نتيجته إلا نصرا لإسرائيل، ومن الطريف أن عبد الناصر في توحده مع ذاته لم يشأ أن يشرك الأسد أو النظام السوري في الهزيمة وكأن الهزيمة (هي الأخرى) بطولة مطلقة لا تقبل القسمة ولا الشراكة.
وهكذا صيغت نتيجة حرب 1967 في الوجدان الناصري على أن الزعيم عبد الناصر هزم أو انتكس، وأن القائد العسكري السوري الأسد قبض ثمن الجولان! ومرة أخرى فإن التفكير في السياق لن يخرج بالأمر عن أن يكون استثمارا أميركيا.
لا أريد أن أمضي بعيدا في قراءة التاريخ على نحو ما تكشفت (على حين فجأة وعلى نطاق واسع) حقائقه الدفينة في العامين الأخيرين بعد أن سقطت الأقنعة وذابت مساحيق التجميل والتمثيل، لكني لا أجد مفرا من إبداء الإعجاب بما نجحت فيه سياسة نظام الأسد منذ مارس/آذار 2011 من إعادة صياغة خبيثة ومخاتلة لدورها التنفيذي في المنطقة، ملقية بكل ثقلها على عدد من الحقائق الحقيقية الكفيلة بإرعاب الأميركيين وحرصهم على الاستدفاء بالأسد:
– سيحل الإخوان المسلمون (وليس غيرهم) محل نظام الأسد، وهم في الحقيقة وبعيدا عن دعاياتنا السورية ودعاياتكم الأميركية، جماعة ذكية واعية معتدلة قادرة على النجاح ومهيأة له.
– سيدرك العالم مع نجاح الإخوان المسلمين أن هناك حلا سحريا لمشكلات الألفية الثالثة الحالة والحادة يتمثل في هذا الإسلام الحقيقي غير المزور ولا المفبرك.
– ستعيد إسرائيل نفسها تقييم علاقتها بالإسلام مستلهمة تعايشا فذا على مدى 1400 سنة في مقابل حرب مقلقة وغير قابلة للانتهاء منذ نحو ستين عاما فقط!
– ستستنتج إسرائيل أن تعاملها المباشر مع مسلمين (أو ساداتيين أو عثمانيين) أكثر راحة وجدوى من تعاملها من خلال الإمبريالية الأحادية أو من خلال الإمبريالية والإمبريالية النقيضة في حقبة الحرب الباردة.
– سوف تستعذب الأجيال الأوروبية الجديدة التعاون الكثيف مع العالم القديم عبر حدود تركيا وسوريا بما يقلل من المزايا النسبية التي تجنيها أميركا بسبب الانقطاع الطائفي القائم حاليا فاصلا فصلا تعسفيا بين حدود طبيعية.
مع وصول الإخوان المسلمين للحكم في سوريا سوف تظهر بوضوح قدرة الإخوان المسلمين الفائقة على توهين وتقليل تأزمات القضايا الإسرائيلية والمذهبية والطائفية في لبنان والعراق وفلسطين وسوريا نفسها، وسيتضاءل إلى أدني حد حجم التأثير الأميركي في المنطقة.
– يمكن بالتالي أن يفهم بسهولة شديدة أن الخطورة في مستقبل سوريا ليست في انتهاء نظامنا (الضمير يعود على أصحاب الرؤية أي نظام الأسد نفسه) ولكن الخطورة تكمن في وصول الإخوان المسلمين.
– نحن (كنظام سوري) لا نمانع في الموافقة على أي ترتيب يستبعدنا من المعادلة شريطة ألا يأتي هذا الحل بالإخوان المسلمين، والقرار لكم يا أميركيين.
– دعونا بل ساعدونا على أن نوهن لكم الإخوان المسلمين إلى آخر طفل (ولا نقول إلى آخر رجل فحسب).
– حين تصلون إلى أي بديل غير إخواني يحل محلنا فنحن سننصرف في الوقت الذي تحددونه، وإلى أن يحدث ذلك فإننا نطلب منكم تكثيف الغطاء الدبلوماسي والإعلامي والدولي بحيث لا نلام بشدة على ما تسمونه انتهاكات لحقوق الإنسان.
– لا تتجاهلوا أن الإخوان تنظيم عابر للدول بل للقوميات في ظل تمدد الإسلام نفسه لكل القوميات، وببساطة شديدة فإن تجربتنا السورية هي النموذج الذي ينبغي أن تحتذوه وتدعموه في مصر واليمن والعراق وليبيا وكل مكان تستطيعون أن تستعيدوا فيه ذكريات الانقلابات العسكرية المنضبطة بالريموت البعيد.
وهكذا حدث هذا التماهي غير المسبوق عالميا والقابل للاستمرار إلى حين يفهمه الطرف الأشرف الذي لا يزال حتى الآن مشغولا بأن ينفي عن نفسه تهمة الإرهاب، بينما الذين يتهمونه يعرفون أكثر من غيرهم أنه بريء تماما من هذه التهمة المفتراة.
محمد الجوادي
الجزيرة نت