أمريكا وروسيا تصوتان لصالح قرار في مجلس الأمن يتسبب تنفيذه في ضرر للنظام الحاكم في سوريا.
من ناحية أخرى، كيري ولافروف يلتقيان مرات عدة في عواصم مختلفة، عربية وغير عربية، خلال أقل من أسبوع، ويتنافسان على من يرسم على وجهه أحسن تعبير للتفاؤل.
أمريكا تراجعت قليلاً في موقفها من شخص الأسد ودوره في المرحلة القادمة، وتتشدد في المساومة مع تركيا حول المنطقة الآمنة واستمرار حربها ضد الأكراد.
روسيا تدعم أمريكا ضد تجاوزات أردوغان وتشجع المملوك، رجل الاستخبارات السورية، على السفر إلى الرياض. هل جاء التشجيع الروسي بعد صدور تلميح من دمشق أم أن التلميح صدر من الرياض ضمن مؤشرات غير قليلة عن تغيير في السياسة الخارجية، أم جاء نتيجة من جملة نتائج متوقعة لتوقيع اتفاق فيينا بين إيران والدول الكبرى.
المعارضة السورية مطلوبة للمثول فوراً، في موسكو وليس في تركيا، وشائعات في دمشق رددتها بيروت عن وجود وفد مصري في دمشق غابت التفاصيل عن مهمته و تكوينه.
أسئلة جديدة، حقيقية وشكلية، تملأ الأجواء الإعلامية ولا تجد إجابات صريحة.
أكثر الأسئلة تركز على اتصالات مكثفة تدور بين دول في الخليج ودول أخرى في الخليج، وبين دول في الخليج ودول في الخارج.
تتضارب المعلومات عن موضوعات الاتصالات.
أدوار تصعد وأدوار تتهاوى أو تختفي.
نعيش ربما لحظة نادرة في تاريخ المنطقة.
لحظة يبدو الشرق الأوسط أمامنا في شكل شريط صور تمر متسارعة.
كل اللاعبين، يتحركون في آن واحد في اتجاهات متعددة ومتناقضة ولكن للغرابة في أجواء من التفاؤل البارد أو لعلها الحماسة الباهتة.
تدفعهم على الأرجح دوافع غير واضحة لنا بعد.
نسأل: أيكون بين الدوافع احتمال أن القوم الكبار قد توصلوا إلى رسم خرائط لكيانات تعتمد على «بقايا» دول وتجمعات لاجئين، أو على الأقل اقتربوا من حلول مؤقتة لبعض أزمات المنطقة.
هل يكون دافع تدخل القادة الكبار انتباههم فجأة إلى أنهم أساؤوا التصرف حين تركوا لفترة قصيرة شؤون الحرب والسلم يديرها ويقرر فيها حكام الشرق الأوسط.
أظن أن قادة العالم الكبار ربما اكتشفوا أن الأوضاع في الشرق الأوسط صارت تستدعي التدخل الحاسم من جانب روسيا وأمريكا وأن تكون النية قد توفرت أخيراً في كل من موسكو وواشنطن للعودة إلى سياسات الإشراف عن قرب على مجريات الأمور في الشرق الأوسط، وفرض نوع أو آخر من أنواع التعاون الإقليمي يقلل من فرص تهور القوى المحلية.
* * *
ليس من باب المصادفات أن تأتي هذه التحركات الدبلوماسية في أعقاب التوقيع على اتفاق «فيينا» بين إيران والدول الكبرى، كما أنه ليس من المبالغة القول إن أصداء هذا الاتفاق قد تجاوزت كل التوقعات.
كادت الأصداء تجعل من فيينا ٢٠١٥ المقابل بامتياز لفيينا ١٨١٥، لم يدر بخلد أحد أن يأتي يوم تجري المقارنة فيه بين مؤتمر ضم الدول – الإمبراطوريات – المنتصرة على فرنسا، وهو المؤتمر الذي وضع أسس نظام دولي وقواعد علاقات دولية استمرت قرناً ونصف القرن، مع مؤتمر ينبثق عنه اتفاق بين دول كبرى ودولة من دول العالم الثالث، وتنتج عنه، حسب ما أذيع، قواعد لعلاقة محددة تقتصر على إجراءات تهدف إلى منع دولة أخرى من العالم الثالث من امتلاك سلاح نووي.
لم يتضمن الاتفاق قواعد سلوك دبلوماسي أو سياسي معين، ولا ترتيبات إقليمية، ولم ينشئ أو يفض تحالفات، ومع ذلك، حظي الاتفاق مع إيران على اهتمام وشجع اجتهادات وتوقعات ما زالت تثير العديد من علامات الاستفهام والاستغراب.
اجتهد مجتهدون ولم يصلوا إلى تفسير مقنع.
الشرق الأوسط بدون شك إقليم له أهميته الاستراتيجية الفائقة لموقعه وثرواته الطبيعية والمالية، ولتاريخه الخصب والممتد طولاً وعرضاً وعمقاً.
ومع ذلك لا أحد من المجتهدين يعتقد أن الشرق الأوسط قادر بأزماته أو بقوته الذاتية على «قصم ظهر» النظام الدولي أو على اختراق تفاعلاته بالقدر الذي يمكن أن يهدد الأمن والسلم الدوليين.
في الوقت نفسه بدأ يبدو لنا كما لو أن كلاً من روسيا وأمريكا، وبخاصة روسيا، شعرتا مؤخراً بأن الحسم العسكري الذي انتظراه لم يقع، وان حكومة الأسد صارت أضعف من أن تستعيد الأراضي التي فقدتها، وأن سقوط الأسد وحكومته يعني حتماً اشتداد الحرب واشتعال كافة الجبهات، وفي النهاية انفراط سوريا إلى كيانات تنشأ بحكم الواقع وعناصر القوة وليس لدولة كبرى فضل في قيامها وحق في توجيهها، بعضها سيكون إرهابي الطبع والتسلح والأهداف، وقد يهدد آجلاً أم عاجلاً سلام واستقرار بلاد القوقاز ومناطق أخرى في جنوب الاتحاد الروسي، وكلها ستفرض وجودها شاءت القوى الدولية والإقليمية أم أبت.
ليس غريباً عن دارسي العلاقات الدولية وممارسيها أن تقوم دولة عظمى بمساعدة دولة خصم أو دولة منافسة على تحقيق بعض أهدافها واحتلال مكانة مناسبة.
أظن أن شيئاً من هذا هو الذي تفعله الآن الولايات المتحدة باتفاقها مع روسيا حول أهمية التحكم في مسارات الأزمة السورية قبل أن ينفرط عقدها نهائياً، أو قبل أن تتصادم إرادات دول إقليمية ساعية للهيمنة على دول وكيانات القلب، أو، ولعله الأخطر من وجهة نظري، قبل اشتعال نيران حرب مذهبية لن تعترف بحدود أو تراعي خلقاً وتحضراً.
قد تتوقع أمريكا من روسيا مقابلاً تدفعه في أوكرانيا، ولكن المؤكد الآن من شواهد اللقاءات هو أنها نجحت في استدراج روسيا إلى جهة أولوية العمل ضد الإرهاب، وتأجيل خلافهما حول مستقبل الأسد.
من حق الدول الكبرى، ويتصادف وجوده مع حق شعوب الشرق الأوسط، الشعور بالقلق من احتمال أن يستمر الخلاف طويلاً بين المملكة العربية السعودية وإيران.
يعتقد بعض قادة التفكير في الغرب أن المنطقة سوف تشهد سباقاً بين دول إقليمية كبيرة على «المكانة» التي تعتقد أنها تستحقها، بينما السائد حتى الآن بين معظم حكومات المنطقة أن إيران لا يحق لها احتلال «مكانة» متميزة في قيادة النظام الإقليمي.
السباق على المكانة مستمر، وفي تصورنا أنه مثل أي سباق على «مكانة» دولية يمكن أن يدار بثلاثة أساليب.
هناك أسلوب الحروب المباشرة بين الدول المتسابقة، وهناك ثانياً أسلوب الحروب بالوكالة، وهذا الأسلوب جار بالفعل تجربته حالياً في سوريا ولبنان كما في العراق وغيرها، وإن بأدوات مختلفة مثل الإرهاب ودعم منظمات التطرف الديني وتخريب مؤسسات الدولة وإفساد الحكام وشن الفتن في صفوف الطبقة والعائلات الحاكمة وتعميق الخلافات المذهبية.
وهناك ثالثاً أسلوب الدبلوماسية والتجارة، وهذه لم يجربها بعد المتسابقون في الإقليم إلا نادراً، رغم أنها التجربة التي تشيد بها الولايات المتحدة على لسان الرئيس أوباما، ويشيد بها الروس على لسان لافروف والرئيس بوتين، وتحظى بدعم ومساندة أغلب حكومات العالم، كما هو واضح الآن من كثافة الاتصالات الخارجية بين إيران ودول عديدة، في مقدمتها الهند والصين اللتان تتسابقان على الطرق الآمنة نحو أفغانستان ووسط آسيا ومنها إلى بقية أوراسيا.
أخشى مع من يخشون أن يكون هناك في أمريكا وبريطانيا وهنا في الشرق الأوسط من يفكر في تنشيط العامل المذهبي في السباق الجاري على «المكانة» بين دول في المنطقة، وآمل مع من يأملون أن ينشأ تحالف غير موثق أو معلن بين عقلاء الإقليم يرفض استخدام هذا العامل ويحشد جماهير صانعي الرأي وراء التزام الحكام كافة بأسلوب الدبلوماسية والتجارة في السباق على المكانة.
جميل مطر
صحيفة الخليج