الانعطافة الاقتصادية في العلاقات التركية-الإيرانية

الانعطافة الاقتصادية في العلاقات التركية-الإيرانية

على الرغم من الاحتكاكات الأخيرة بين تركيا وإيران على خلفية النزاع في محافظة إدلب السورية في شباط/فبراير 2020، نجحت الدولتان، على نحوٍ لافت، في التخفيف من حدّة التشنجات بينهما من خلال الحوار المتعدد الأطراف ومنصات إدارة النزاع في الأعوام القليلة الماضية. لقد عارضت إيران بشدّة محاولة الانقلاب العسكري في تركيا في عام 2016. وانتقدت تركيا بدورها الاحتجاجات في إيران في عام 2018، وفي العراق في عام 2019، علماً بأنه كانت للاحتجاجات في البلدَين القدرة على زعزعة المؤسسة الحاكمة في إيران ونفوذها الإقليمي. وقد ساهمت عوامل عدة في تعزيز التقارب بين البلدَين، وتتمثّل في مستويات التشكيك والعداء المختلفة تجاه الدور الأميركي في سورية، والخطر المتنامي الذي يُعتقَد أن حزب العمال الكردستاني يجسّده مع فروعه في المنطقة، والموقف الموحَّد من الحظر على قطر، والعداوة المشتركة تجاه الرياض وأبو ظبي وإسرائيل.

وقد كانت لـ”حملة الضغوط القصوى” التي مارستها الولايات المتحدة على إيران، واشتملت على عقوبات اقتصادية وجهود سياسية لعزل النظام، تداعياتها على التجارة، وكذلك على العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وطهران بصورة عامة. وكانت هذه الروابط ركيزةً من ركائز العلاقات المعقّدة والمتعددة الجوانب بين البلدَين. وتسببت العقوبات الأحادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران في أواخر عام 2018 بتراجع حجم التجارة الثنائية بين تركيا وإيران من حوالي 10.7 مليارات دولار في عام 2017 إلى 5.6 مليارات دولار فقط في عام 2019، أي بنسبة 50 في المئة.١ وبحسب تقرير صادر عن غرفة التجارة والصناعة والتعدين والزراعة في طهران، حافظ التصدير الإيراني إلى تركيا على وتيرته حتى الربع الثالث من عام 2018، ولكن في الربع الأخير من العام وخلال عام 2019، سجّلت هذه الصادرات تراجعاً مطرداً. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى القرار الذي اتخذته تركيا بوقف استيراد النفط الخام والمنتجات النفطية من إيران بعدما امتنعت الولايات المتحدة عن تجديد الإعفاءات الخاصة من التقيّد بالعقوبات الممنوحة لتركيا وبلدان أخرى، علماً بأن النفط الخام والمنتجات النفطية كانت تشكّل جزءاً كبيراً من الواردات التركية من طهران.

كان الميزان التجاري يميل لمصلحة إيران على امتداد سنوات كثيرة. واستمر على هذا النحو خلال عام 2019 في المجمل، لكنه سجّل عجزاً خلال الربعَين الثالث والرابع من العام المنصرم. وفقاً للتقرير الصادر عن غرفة التجارة والصناعة والتعدين والزراعة في طهران، وبما أن حصة النفط الخام والمنتجات النفطية في الواردات التركية من إيران تراجعت بنسبة 63 في المئة، انخفض الفائض في الميزان التجاري الذي كان يُسجَّل لمصلحة إيران، بنسبة 79 في المئة. تتوقّع غرفة التجارة والصناعة والتعدين والزراعة في طهران أن يميل الميزان التجاري لمصلحة تركيا إذا استمرت النزعة نفسها التي سادت في الربعَين الأخيرين من العام 2019. وخلافاً للتراجع في الصادرات الإيرانية، ظلّ التأثير على الصادرات غير النفطية من تركيا إلى إيران عند حدوده الدنيا في عامَي 2018 و2019. ويُتوقَّع أن تتكبّد إيران خسائر إضافية بسبب تراجع العلاقات الاقتصادية، لكنها ستسعى جاهدةً – أكثر مما ستفعل تركيا – للحؤول دون تدهور هذه العلاقات حتى لو كان ذلك يصب إلى حد كبير في مصلحة تركيا. وفي هذه الحالة، يمكن استخدام تركيا بمثابة شريان حياة اقتصادي فيما تتعرض إيران لضغوط اقتصادية غير مسبوقة.

لقد تمكّنت تركيا وإيران من فصل علاقاتهما الاقتصادية عن خصوماتهما الإقليمية خلال العقد الماضي، ولكن التعاون الاقتصادي ساهم، في الوقت نفسه وبصورة غير مباشرة، في الانضباط الجيوسياسي، بهدف حماية مصالحهما الاقتصادية المشتركة من جملة أمور أخرى. وعلى صعيد المنافع الاقتصادية التي يمكن أن يقدّمها كل طرف إلى الآخر، ترى تركيا في إيران مصدراً استراتيجياً لإمدادات النفط الخام والغاز الطبيعي، ومصدراً ضرورياً لأمنها في مجال الطاقة وجهودها الهادفة إلى تنويع نشاطها الاقتصادي. وتشكّل إيران أيضاً سوقاً مهمة للصادرات التركية غير النفطية، نظراً إلى أنها تضم عدداً كبيراً من السكان. إضافةً إلى ذلك، تلجأ تركيا على نحوٍ متزايد إلى استخدام إيران بمثابة طريق عبور إلى أسواق آسيا الوسطى. أما بالنسبة إلى إيران، فتركيا هي الجهة المستوردة الأكبر للغاز الطبيعي الإيراني ومستوردة أساسية للنفط الخام الإيراني. وتُشكّل بوابة اقتصادية للوصول في المستقبل إلى أسواق الطاقة النفطية وغير النفطية في أوروبا. ويُعرَف عن تركيا أيضاً أنها تؤمّن قناة دعم اقتصادية لإيران في أوقات الأزمات. فقد بادرت تركيا إلى تقديم المساعدة إلى إيران لتأمين احتياجاتها الاقتصادية في أثناء الحرب التي استمرت ثمانية أعوام بينها وبين العراق، وكذلك عندما واجهت إيران صعوبات في الخليج الفارسي بسبب الخلل في حركة الملاحة البحرية.٢ وفي عام 2012، أدّت تركيا دوراً حيوياً في مساعدة إيران على التهرب من العقوبات من خلال خطة كبرى اشتملت على تسديد ثمن النفط والغاز الطبيعي المستورَد من إيران بواسطة الذهب.

يتجدّد الدور التركي في موقع القناة التي تؤمّن الدعم الاقتصادي فيما تواجه إيران من جديد ضغوطاً اقتصادية بسبب العقوبات الأميركية. وقد طغت مسألة توطيد العلاقات بين تركيا وإيران على النقاشات في الاجتماعات التي عُقِدت بين مسؤولين حكوميين أتراك وإيرانيين بعدما قامت الولايات المتحدة بفرض العقوبات في عام 2018. ٣ وفي حين أن الضغوط الاقتصادية الخارجية على إيران تؤثّر في الصادرات التركية غير النفطية إلى إيران في المدى التوسط، وربما تؤثّر في الأمن التركي في حال تعرّض الاستقرار الإيراني للاهتزاز، تؤمّن هذه الضغوط أيضاً بعض الفرص الاقتصادية لتركيا. فعلى سبيل المثال، استثمر عدد كبير من المواطنين الإيرانيين في القطاع العقاري التركي في عام 2019. واحتل الإيرانيون المرتبة الثانية بعد العراقيين في شراء العقارات، من خلال شرائهم 5432 وحدة عقارية. وكان المواطنون الإيرانيون أول المبادرين إلى إنشاء شركات في تركيا العام الماضي، من خلال إنشاء 978 شركة. وفي هذا الصدد، تعمل نحو 600 شركة إيرانية في محافظة إزمير التركية المعروفة بحيويتها الاقتصادية.٤ وفي المجمل، يُعتقَد أن الاستثمارات التركية في إيران ازدادت خلال عام 2019.٥

لدى الإيرانيين حوافز عدّة لشراء عقارات وتملُّك شركات في تركيا. تتطلع شريحة من الإيرانيين إلى العيش في بلد أكثر استقراراً وفي مجتمع منفتح اجتماعياً على مقربة من وطنهم الأم. وعلى الأرجح أن ثمة شريحة أخرى على صلة بالجهود التي تبذلها إيران للتهرّب من العقوبات الأميركية من خلال تطوير شبكات أعمال جديدة. يُعتقَد أن بعض الشركات الإيرانية التي أنشئت في تركيا في عام 2019 انتقلت من الإمارات العربية المتحدة إلى تركيا بعدما تشدّدت دبي في فرض شروط على التجّار الإيرانيين بسبب محاولاتهم الآيلة إلى التهرب من العقوبات الأميركية.٦ ونظراً إلى منع النظام المصرفي من إجراء معاملات مالية بسبب العقوبات الأميركية، يجري اللجوء إلى الوسائل غير النظامية مثل مكاتب الصيرفة، وهذا لايساعد على إنجاز المعاملات المالية المهمة، لأن هذه الوسائل هي أعلى كلفة.٧ ولكن انتشار الشركات الإيرانية العاملة في قطاع التصدير في تركيا سيساهم على الأرجح في ازدهار التجارة الثنائية غير النفطية في المدى المتوسط إلى الطويل إذا رُفِعت العقوبات الأميركية.

لكن المشهد معقّد في ما يتعلق بمصير صادرات الغاز الطبيعي الإيراني إلى تركيا في المدى المتوسط إلى الطويل. ويُعزى ذلك بصورة أساسية إلى نيّة تركيا خفض وارداتها من الطاقة المخصصة للاستهلاك المحلي، وتنويع مصادر وارداتها من الغاز، وزيادة حصتها من المحروقات المنتَجة داخلياً، من أجل تعزيز أمن البلاد في قطاع الطاقة. تعمل تركيا على التحوّل إلى مركز إقليمي للطاقة من خلال الربط بين منتجي الموارد الطبيعية في الشرق والمستهلكين الأوروبيين، فيما تزداد المنافسة بين الجهات المزوّدة لسوق الطاقة الوطنية في تركيا. ونتيجةً لذلك، قد تُضطر إيران إلى خفض أسعار الغاز التي تُعتبَر مرتفعة بالمقارنة مع أسعار الغاز الروسي والأذربيجاني، مع تدفّق مزيد من الغاز الطبيعي المسال، لا سيما من الولايات المتحدة. وفي حين أن حجم صادرات الغاز الطبيعي الإيراني إلى تركيا ازداد مع مرور السنين، تراجعت حصة إيران من واردات الغاز التركية من 21 في المئة في عام 2010 إلى 15.61 في المئة في عام 2018، ما يعكس الخطوات التي اتخذتها تركيا لتنويع المصادر التي تستورد منها الغاز، فيما تعمل على تعزيز أمنها في مجال الطاقة. تُجيز الولايات المتحدة حالياً لتركيا استيراد الغاز الطبيعي من إيران لأن تركيا لا تستطيع أن تستبدل بسهولة الإمدادات الإيرانية بسبب المحدوديات في مجال البنى التحتية. وفي غضون ذلك، ليست إيران قادرة على تقاضي عائداتها من الصادرات بالعملة الصعبة – بل يُسدَّد ثمنها في شكل سلع تحصل عليها إيران من تركيا في إطار خطة “الغاز مقابل السلع”.٨ تنتهي صلاحية عقد الغاز الحالي في سنة 2026. ولذلك، يتعيّن على الطرفَين التفاوض باكراً على شروط عقد جديد.

قد تكون لتآكل العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران تداعيات على العلاقات السياسية وعلى الخصومة المضبوطة التي يُعتقَد أنها قائمة بين البلدَين. إذا حافظت الدولتان على تصوّرات التهديد المشتركة وعملتا على توسيعها، وحاولتا ضبط الخلافات الجيوسياسية من خلال الآليات المؤسسية، قد تستمر أواصر العلاقة بينهما في مواجهة التباطؤ الاقتصادي في المدى القصير، ولكن سوف يتعّين عليهما بذل جهود دؤوبة للحؤول دون انهيار التجارة بينهما.

تامر بدوي

صدى كارنيجي