الخطاب الديني أسير قاعدة “ما أريكم إلاّ ما أرى”

الخطاب الديني أسير قاعدة “ما أريكم إلاّ ما أرى”

مسألة تجديد الخطاب الديني لا تزال تراوح مكانها في صلب معيشنا اليومي ما بين راغب في تحويلها إلى أسس لتغيير الواقع بما يقتضيه من تحولات متغيرة عمّا سبقه وما وصلنا من تراث متعلق بنصوص الدين، سواء كانت قرآنا أوأحاديث أوأثرا أواجتهادا أوقياسا، وبين من يرى النص قد انغلق واكتمل مع الرعيل الأول من فقهاء ومفسرين وما نحن إلا عالة على من سبقنا ولم نصل بعد إلى إدراك ما قننوه ووضعوه من مبادئ في مقاربة تلك النصوص.

الخطاب الديني بما هو بحث عمّا يفسر الواقع الذي يتواءم معه لا ينفك الجدال يدور حوله، ودليل ذلك الممنوع الذي لا يمكن الاقتراب منه ولا النظر إليه باعتبار كتب التراث لها قداسة لا تتطلب إلا التسليم والرضا بما جاء فيها.

بين حين وآخر تطفو مسألة الفتاوى التي تثير غبار جدال ما ينفك حتى يضمحلّ ولا نمسك منه ولو خيط دخان قد يهدينا سبل الرشاد.

جاء كورونا وقلب كل المعادلات وصاحبه عزل الناس في بيوتهم وغلّقت كل الفضاءات ومنها دور العبادة وانبرى سدنة الدين والناطقون باسم الله إلى التحليل والتحريم وإصدار الفتاوى وبيان الخوف على دين الناس من خلال بيانات وآراء لا تمت للواقع المعيش بصلة بل منطلقة من اجتهادات سابقة لها سلطة على العقل ولا تمكن زحزحة التسليم بها.

أين نحن الآن؟ وأين نسير؟ في كل ملمّة نجد أنفسنا في مفترقات طرق لا مفترق واحد، فمن له أحقية التصدي لتفسير المقدس وتأويلاته؟ هل نزل القرآن إلا للفقهاء أم للناس جميعا؟ من له الحق لينصّب نفسه ناطقا بعقول الناس وقلوبهم ويبين لهم علاقتهم بربهم؟

إننا لا ننسى موقف المتشددين من قراءات نصر حامد أبوزيد ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد أركون وعبدالمجيد الشرفي وغيرهم من المفكرين للنص الديني ومتغيرات التأويل زمانا ومكانا، حيث أنّ آراء هؤلاء لم تلق في نفوس أولئك موقعا لأنها لم تمس ما اعتنقوه وما آمنوا به من انشداد للماضي ومحاولة إسقاط ذلك على الحاضر في انتظار استشراف المستقبل الذي لن يكون إلا بالتعدد وليس بالقطب الواحد في الرؤية والتفكير.

النص الديني ما بين الثبات والتحول هو لب المسألة في التعامل مع عقل الماضي الجامد وعقل الحاضر الحائر وعقل المستقبل الذي لن يكون.

يقول نصر حامد أبوزيد في كتابه “نقد الخطاب الديني”، “لا خلاف أن الإسلام بالفعل حرّر الإنسان من سيطرة الأوهام والأساطير على عقله، وحرر وجدانه وعقائده من كل ما يعوق حريته”، ومن خلال هذا لا نزال نترنح في فهم هذا التحرر من الأوهام والأساطير ما دام عقلنا الفقهي لم يتحرر بعد من تلك النظرة الماضوية للنصوص.

فالحيرة في التفكير هي أساس الدين وهي السبيل لفهم هذا الدين، وهي الطريق لمواءمة مقتضيات التغير في كل عصر وآن من خلال التعامل العقلي المتحرر من كل هيمنة فكرية أو رؤية أيديولوجية تجعل النص مجرد ترديد لمقولات كانت صالحة في عصرها ومتكيّفة مع مقتضياته.

سيطرة الماضوية على العقل الفقهي بيّنة واضحة إذ يسعى أصحابها إلى السيطرة على عقائد الناس بإنزال نوازل ذاك الماضي على حاضر متغير غير قرين بما تمت تبيئته في تلك الفترة.

الخطاب الديني الماضوي لن يتغيّر إلا إذا تغيّرت نظرتنا نحن لواقعنا المعيش بما يحمله من متغيّرات ونحن أولى بأن نعيد النظر فيه وفق ما يجعل هذا الحاضر ذا قيمة.

مسألة التّأويل هي لب مسألة تجديد الخطاب الديني ذلك أن نصر حامد أبوزيد في كتابه “إشكاليات القراءة وآليات التأويل” يقول “إن التأويل قد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فأعطى للمؤوِّل حرية واسعة في فهم النص، على الرّغم من أن التفسير بالمأثور، بحسب المنهجية المتَّبعة، قد يضع بيد المفسر إمكانية موضوعية للفهم، حيث أن الاتجاه الأول يتجاهل المفسِّر ويلغي وجوده لحساب النص وحقائقه التاريخية واللغوية”، فتأويل النصوص الشرعية بحسب أهواء صانعي فكر الانغلاق وفتاوى الطلب، أو هي كما قال المصريون متندرين زمن جمال عبدالناصر بفتاوى إمام الأزهر محمود شلتوت بأنها “فتوى مشلتتة”، فكلّ ما يتمّ ذكره من دفاع عن قدسية النص هو دفاع عن مكانتهم بوصفهم حرّاس الدين وهم وحدهم القادرون على الفهم وغيرهم مجرد تابعين لما يرونه، فجمهور المسلمين من وجهة نظرهم مجرّد متقبلين لا عقل يحكم تصوّراتهم، فهؤلاء لا يريدون للناس أن يروا إلا ما يرونه هم منطلقين من الآية القرآنية “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.

نحن اليوم أمام سيل من التبعية الفكرية لمنظري تجميد الخطاب الديني لا تجديده، ولا يسعنا التفكير خارج إطار مؤسسة فقهاء التشدد والانغلاق، حيث يعتبرون أنفسهم الوسيط بين الله وخلقه، رغم أنه لا كهانة في الإسلام، وحياتنا لا تستقيم حسب مفاهيمهم إلا بصكوك غفران يمهرونها بما يعتقدونه من أن ما يمتلكونه من سلطة يعطيها إياهم المقدس بوصفهم حراسه وموكّلين على عقول الناس وإيمانهم والناطقين باسم الدين وإله الدين.

إن التطور التكنولوجي والمعرفي الذي ميز نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين لم يسعف هؤلاء الناظرين للزمن بأنه توقف عند ما علموه من كتب تراثية ومحتوياتها وشروحها ومتونها وحواشيها، بأن يغيروا النظرة إلى الخطاب الذي أرادوا أن يشيعوه بين الناس والذي لا أفق له بين ثنايا التطور الذي شهدته مجالات اللغة والنظريات اللسانية وفهم الخطاب وآلياته وتطور مجالات التقنية في علوم الحاسوب والمكننة والإنترنت.

خطاب التشدد والتكفير والالتصاق بما قال السلف دون تمحيص ولا دراية لن يمكّن الخطاب الديني من التطوّر وفق مقتضيات تغيرات الواقع المعيش، وهذا ما يبقيه حبيس التأويلات والتفسيرات الماضوية ما جعلنا حبيسي هذا الماضي دون نظر إلى حاضر نغيره لنبني عليه مستقبلا قد يكون وقد لا يكون.

العرب