عندما تنقل وكالة “مهر” شبه الرسمية تقرير مركز البحوث التابع إلى مجلس الشورى الإيراني، أنه أُنفِق 4,5 مليار دولار أميركي على إنشاء “شبكة المعلومات الوطنية” خلال العام الماضي، وفي مايو (أيار) المنصرم، أعلن المجلس الأعلى للثورة الثقافية، أنه أُنجِز نحو 80 في المئة من المشروع، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ المرشد الأعلى علي خامنئي لم يوقف سلسلة انتقاداته، بسبب تباطؤ إنجاز هذا المشروع.
وتعود فكرة المشروع إلى عام 2005 في عهد حكومة محمود أحمدي نجاد المتشددة، أي بعد خمس سنوات من انضمام إيران إلى الفضاء الإلكتروني العالمي، وفي عام 2010 كان من المفترض المباشرة بالتنفيذ لتكتمل الشبكة في نهاية عام 2016، لكن حكومة حسن روحاني ارتأت التأجيل، حتى اندلعت الاحتجاجات بين أواخر 2017 وبداية 2018، ومن ثمّ نشبت الاحتجاجات بشكل أشد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، ومع القمع البربري الدامي ضد المحتجين المدنيين، ارتفعت أصوات المتشددين بغلق مواقع التواصل الاجتماعي، وحُجِبت مئات الآلاف منها.
ومن الواضح للقاصي والداني، أن غاية النظام الإيراني من إنشاء هذا المشروع، لأسباب خاصة، تتعلق بأهداف مخططاته السلبية أكثر من خطط الصالح العام في البلاد، ومنها فرض السيطرة، والتحكّم بالجمهور تجاه تواصله الاجتماعي داخلياً وخارجياً، والمراقبة الأمنية والمتابعة الخاصة ضدّ الناشطين والحقوقيين والرافضين سياسة بلادهم، وتضييق الخناق على الحريات، والتحرّك السريع ضد أي تطلع لا يلائم النظام، والمقربة من الدراية، خصوصاً أن احتمالية انفجار الشارع الإيراني متوقعة، وكذلك، استخدام هذه الشبكة المعلوماتية لقضايا استخبارية وأهداف جاسوسية، وتعويض تراجع المشروع السياسي في المنطقة بمشروع معلوماتي.
هذه وغيرها من الأسباب، تدفع بالطبقة الدينية المتشددة في إيران إلى أن تسارع بإنجاز مثل هذا المشروع، فلا غرو إذن، أن يطالب وليّهم الفقيه خامنئي بالتعجيل في عملية إكمال هذه الشبكة المعلوماتية، ولا غرابة أيضاً من المدّعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري، أن ينظر إلى الشبكة الإلكترونية العالمية بأنها تنشر الزندقة وتعاليم مناهضة الأمن القومي وتدمر هُوية الشباب، كأن لا إيجاب فيها بالمرة، ولا يمكننا استخدامها بالطريقة الصالحة والمفيدة، فالذريعة بالنسبة إلى المتشددين جاهزة باسم الدين، لذلك، حاولت حكومة روحاني عام 2016 أن تؤسس شبكة داخلية معزولة، أُطلق عليها “الإنترنت الحلال”، إذ يمكن استخدامها للترويج للمحتوى الإسلامي، ورفع الوعي الرقمي بين المسلمين، على حدّ زعمهم.
هاجس الأمن فوق الاقتصاد
ويعاني النظام الإيراني هاجساً أمنياً مزمناً وخوفاً متنامياً من أن تعصف به ثورة شعبية عارمة مشابهة لِما جرى للشاه محمد رضا بهلوي، وأسقطته عام 1979، ويزداد هذا الاضطراب جراء التردي الاقتصادي المتفاقم، بسبب سياسة النظام نفسه، سواء في الفساد المستشري في هياكله كافة، وعلى رأس الهرم خامنئي نفسه، الذي تقدر ثروته بنحو 200 مليار دولار، حسب بيان نشرته سفارة الولايات المتحدة في بغداد على صفحتها في “فيسبوك” خلال أبريل (نيسان) 2019، وكذلك في إهدار الأموال الطائلة على الميليشيات الطائفية المنتشرة بالمنطقة، خدمة لمشروع سياسي آخذ بالانحطاط، فضلاً عن مئات المليارات من الدولارات في إنشاء مفاعلات نووية، ظاهرها مدنيّ وباطنها عسكري، ولم تحقق هدفها إلى هذا اليوم.
وبدلاً من أن يتجه النظام إلى إعادة حساباته السياسية والاقتصادية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لتخفيف وطأة المعيشة الضنكة التي تعانيها الشعوب والقوميات داخل جغرافية إيران، فإنه أنفق نحو 11 مليار دولار على تأسيس “شبكة المعلومات الوطنية”، لكي تخدم أمنية النظام بشكل أوسع، وتقلّص اتصالات الإيرانيين بالعالم الخارجي، تمهيداً إلى عزلهم وفق الانغلاق الذي يخطط له أقطاب النظام.
ومع ذلك، يتبجح مساعد شؤون الاتصالات في مكتب الرئاسة، علي رضا معزي بأن “الحديث عن توسّع شبكة المعلومات الوطنية والاستقلال في الفضاء الإلكتروني لا يعني إغلاق الإنترنت والعيش في العصر الحجري”، وهذا الكلام هو ذرّ الرماد في العيون، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قُطِع الإنترنت بشكل كامل، وغدت الشعوب داخل إيران معزولة عن العالم، ونفذت السلطات هذا الإجراء بأمر أجهزة الاستخبارات والأمن، لقمع الاحتجاجات التي سادت في المحافظات الإيرانية كافة.
من هنا، يبقى الهاجس الأمني الشغل الشاغل لدى حكام إيران، ويظن النظام أن اكتمال المشروع المعلوماتي سيمكنه من فرض السيطرة، والتحكم في غلق إيران عن العالم ساعة استشعاره خطراً داخلياً يداهمه، إذ إن البون الشاسع تزداد هوته ليس داخلياً فقط، بل خارجي أيضاً، فما وصل إليه النظام الإيراني من مقت وازدراء إقليمياً ودولياً جراء سياسة الإرهاب التي يتبعها منذ سنين طويلة، فإنّ الدنو من اكتمال مشروعه المعلوماتي سيزيد عليه الريبة والشكوك أكثر.
عندما تنصّ الواجهات الإيرانية كافة في الداخل والخارج، من منظمات إنسانية وحقوقية ومجموعات سياسية معارضة، أن الهدف الحقيقي من تأسيس “شبكة المعلومات الوطنية” هو تشديد الرقابة على استخدام الناس الإنترنت، والسيطرة على تغطية الاحتجاجات الشعبية والإضرابات العمالية المستمرة والاضطرابات المحتملة، فإنّ هذه الأقوال لم تأتِ من فراغ قط، وإذا يتعمّد النظام الإيراني أن يتجاهلها، فإنّ العالم لن يغض الطرف عنها، لا سيما أن الأمر يتعلق بالفضاء العنكبوتي العالمي، لذلك لا يمكن دفع إيران نحو الانغلاق.
عماد الدين الجبوري
اندبندت عربي