عدّل المبعوث الأميركي إلى سورية من أنقرة، جيمس جيفري، من لهجة الإغراء، منطق استعمال الجزرة بدل العصا، في مخاطبة الروس، بمقابل اعتراف الولايات المتحدة بدور موسكو في سورية وتقوية مركزها، ذلك أن تعليقه الأوّل اشترط إزاحة الأسد عن الحكم وإخراج إيران من سورية، ثمّ اكتفى، في تصريحه الثاني، بإخراج إيران. وبذا تتفق واشنطن وتل أبيب على تجفيف قدرات الأسد، عبر التركيز على الحضور والدور الإيرانيين. وجاءت تصريحات المبعوث الأميركي معطوفةً على سيل اتهامات روسية لبطانة نظام الأسد بالفساد والتربّح، ووصفٍ لحكمه بالضعيف، والحديث عن إمكانية استبداله.
في حمأة الاتهامات الروسية غير المسبوقة تلك، قدّم (رجل الأعمال السوري) رامي مخلوف نفسه بنفسه أنه “كبش المحرقة”، وعلامةً على نيّة النظام الأمني القويّ والقادر على تجفيف منابع النفوذ الإيراني في دمشق. وبذا استرجع الأسد شرط تبريد نار الإعلام الروسي الموجّه عبر تخفيض القدرات التنافسية الإيرانية لروسيا عبر تحجيم شركاء طهران السوريين، وتذليل العقبات التي يفرضها وجود متنفّذين في الاقتصاد السوري لمصلحة رجال أعمال روس، أو شخصيات محسوبة على الكرملين.
ثمّة توازن أقامه النظام عندما لاذ بموسكو، بعد أن شعر بصعوبة التدخل الإيراني المباشر. ولأن
“الغالب أن الأسد سيختار البقاء تحت المظلة الروسية، وتجنّب مصير “الرفيق” حفيظ الله أمين”إيران تجيد اللعب خلف الستار، فإن المسارات العسكريّة والسياسية والمالية أثرت في شكل التدخل الروسي في سورية، ذلك أن إيران يظهر دورها في المسارات الثلاثة من دون أن تراها في العلن، علاوة على أن طهران ما إن تخرج من الباب حتى تعاود الدخول عبر النافذة. وجه آخر للتنافس الروسي الإيراني يظهر في تخيّلهما شكل القوّات المسلّحة، موسكو تطمح إلى جيش بمعايير الانضباط الروسيّة، فيما تسعى طهران إلى مراكمة التشكيلات العسكرية المتعدّدة وفق نمط مليشياويّ، إنْ تصديراً لنموذج القوّات الإيرانية، أو نقلاً لتجربة “الحشد الشعبيّ” العراقي.
الوجود والنفوذ الإيرانيان يحولان دون الحديث عن مسألة “بديل الأسد”. نمط تقسيم العمل إلى فريق يشتغل مع الروس وآخر مع الإيرانيين هو تكتيك دمشق الأثير، والذي يمنع تخيّل بديل للنظام، المزيد من حضور روسيا وأدوارها في سورية يعني التقليل من تأثير بشار الأسد في الحكم، الاستحكام في مفاصل الدولة والجيش والاقتصاد يعني إنهاء صيغة اللعب على الحبال. لذا يبدو التنبؤ بإمكانية إخراج إيران من سورية وثيق الصلة بإزاحة الأسد عن الحكم، وهو ما تفهمه دمشق وتخشاه.
تقودنا مسألة “البديل” إلى مثالٍ وثيق الصلة بتدخلٍ روسيّ مشابه بعض الشيء، وهو مثال عن استحالة اللعب مع الروس، حيث إنه وبعد ثلاثة أشهر من انقلابه على حكم الرئيس الأفغاني، نور محمد تراكي، وفي 29 ديسمبر/ كانون الثاني 1979، نفّذ فصيل “ألفا” التابع للجيش الأحمر عملية “العاصفة “333” التي أسفرت عن قتل الرئيس الأفغاني “الموالي للسوفييت” حفيظ الله أمين في قصره الحصين (دار الأمان) في كابول. كان الأخير قد حاول اللعب على الحبال، وامتلاك هامش مناورة يكون أحد أطرافه السوفييت، وتجاوز تعليماتهم رفقة ابن شقيقه أسد الله أمين، المسؤول النافذ في المخابرات الأفغانية، واعتماده نهجاً بالغ القسوة في حل المشكلات الداخلية، كان له التأثير الكبير في احتكام موسكو إلى “الحل الأخير” المتمثّل في التخلّص من الرئيس المستجد في الحكم. بيد أن السبب الرئيس لاغتيال أمين كانت الشكوك السوفيتية في صلاتٍ جمعت أمين بوكالة الاستخبارات المركزية (الأميركية)، والتي تبيّن فيما بعد أنها لم تكن ذات أهميّة، ولا تدعو إلى انتقام بدأ بمحاولة دسّ السم في طعام حفيظ الله، ونجا منها، وانتهى بإمطاره بالرصاص.
كان أمين على اتصال مفتوح بوزير الخارجية السوفييتي، أندريه غروميكو، وعلى علاقة طيّبة
“موسكو تطمح إلى جيش بمعايير الانضباط الروسيّة، فيما تسعى طهران إلى مراكمة التشكيلات العسكرية المتعدّدة وفق نمط مليشياويّ”بالسوفييت، أو هكذا كان يظنّ، الأمر الذي فسّر هذيان الرئيس لحظة سماعه أزيز الرصاص المتّجه نحو قصره، إذ بادر إلى طمأنة من حوله بأن الروس سيأتون في نجدته، حتى قال له أحد معاونيه إن القوّات المهاجمة روسية، لحظتها فقد حفيظ الله كل أمل بالنجاة.
يختلف تموضع الأسد المديد، والمعطوف على حكم الأسد الأب، عن وضع الرئيس حفيظ الله أمين، فوق أن ما يمكن تسميه توفّر شرط “العصبيّة الأمنية” والاحتكام على شبكات التمويل السوداء للأنشطة المغذّية للقوات الرديفة، وحضور غير قابل للقسمة في الجيش عبر اعتماد صيغة الولاء أوّلاً، وسواها من مسائل تجعل من تبديل الأسد مغامرةً متعبة للروس، على الرغم مما تحمله رسائل الروس، عبر الصحافة الناطقة باسم الكرملين، عن بحث موسكو عن بديل للأسد!
عبر صحافتها التي يمكن وصفها بالمركزية، نمي عن الرئيس الروسي، بوتين، وصفه الأسد بأنه “عنيد”، والعناد هنا يمكن أن يفهم على نحو ما أشاعته تلك الصحافة أن الأسد لا يبدي مرونةً كافيةً في مسائل الحوار مع أخصامه، في المعارضة ومع الكرد السوريين، وعدم رغبته في إجراء إصلاحات بنيوية في نظامه، حيث “الفساد أسوأ من الإرهاب” وفقاً لخبراء روس، إضافة إلى المسألة الأهم، وهي محاولة توظيف النظام الوجود الروسي لأجل طموحاته الشخصية التي لا يشترط أن تتقاطع مع ما يطمح إليه الروس.
ثمّة غيومٌ ملبّدة تتجمّع فوق دمشق، وما تكثيف الضغوط الروسية سوى رسائل مفادها إمكانية استبدال الأسد، إن هو اضطرّها إلى هذه المغامرة، أو أن يجنح الأسد إلى سياسةٍ أكثر انصياعاً، وأقل عناداً للرؤية الروسية لحاضر سورية ومستقبلها. الغالب أن الأسد سيختار البقاء تحت المظلة الروسية، وتجنّب مصير “الرفيق” حفيظ الله أمين.
شورش درويش
العربي الجديد