أظهر تحذير الرئيس دونالد ترمب بقطع التمويل الأميركي عن منظمة الصحة العالمية بشكل دائم وبحث انسحاب الولايات المتحدة من عضويتها إذا لم يتحسن أداء المنظمة خلال 30 يوماً، عزماً أكيداً على أن الإدارة الأميركية لا تريد مقاومة النفوذ الصيني المتصاعد داخل المنظمات الدولية وحسب، بل ودفع بكين إلى الزاوية كي تتحمل مسؤولية انتشار وباء كورونا حول العالم بما ينعكس سلباً على مكانتها بين الدول، ومن ثم يُبقي للولايات المتحدة هيبتها التي تحاول الصين النيل منها. في المقابل، قاومت بكين المحاولات الأميركية ولم تقبل الانتقادات الموجهة إليها بالتعتيم على انتشار فيروس كورونا، بل أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ عن تبرع بقيمة ملياري دولار لمنظمة الصحة العالمية خلال العامين المقبلين، ما أثار مخاوف غربية من رغبة صينية في السيطرة على المنظمة، كما طفت على السطح تساؤلات حول ما سيؤول إليه الصراع الأميركي – الصيني، وكيف ستؤثر عواقبه في عمل منظمة الصحة العالمية في وقت تواجه فيروس كورونا؟
نصف انتصار هيمن النزاع الأميركي – الصيني على الاجتماع السنوي لمنظمة الصحة العالمية، إذ استخدمت واشنطن لغة تصعيدية اتسمت بالتهديد بالانعزالية، فيما عادت الصين إلى انتقاد الولايات المتحدة عبر القول إنها أساءت التقدير حين استهدفت بكين وتهربت من مسؤولياتها، في الوقت الذي تساوم على كيفية الوفاء بالتزاماتها الدولية تجاه منظمة الصحة العالمية. إلا أن موافقة منظمة الصحة العالمية على إطلاق تحقيق حول كيفية الاستجابة العالمية لوباء فيروس كورونا، وتبنيها قراراً قدمه الاتحاد الأوروبي نيابة عن أكثر من 100 دولة من بينها أستراليا والصين واليابان، يشكلان نصف انتصار للرئيس ترمب الذي أصر على هذا التحقيق منذ أسابيع وألقى بثقله للدفع نحو إنجازه، بل وطالب بالتحقيق في أصل الفيروس وما إذا كان تم تخليقه في مختبر صيني. صحيح أن قرار المنظمة يدعو إلى تقييم محايد ومستقل وشامل للاستجابة الدولية للفيروس، بما في ذلك جهود منظمة الصحة العالمية في هذا الإطار، إلا أن مسارعة الولايات المتحدة إلى الإشادة بالقرار وتأكيدها في بيان رسمي إنه يشكل تفويضاً للتحقيق في أصول الفيروس، يعكسان مشاعر الانتصار الأميركية المؤقتة على الرغم من أن قرار المنظمة لم ينص على ذلك. ضغط ومقاومة وعكس البيان الأميركي رغبةً حاسمة في تحقيق مطالب الرئيس ترمب، إذ أوضح أن “التحقيق سيضمن أن يكون هناك فهم كامل وشفاف لمصدر الفيروس والجدول الزمني للأحداث والمناقشات المبكرة وعملية صنع القرار لدى منظمة الصحة العالمية لتحديد كيفية الاستجابة لوباء كوفيد –19”. كما طالب البيان بضرورة “إصلاح منظمة الصحة العالمية ودعم الكيانات لتكون قادرة بشكل كامل على أداء مهمتها الأساسية والحاسمة للمضي قدماً إلى الأمام”.
وفي حين لم تعترض الصين على القرار، إلا أن الرئيس الصيني شي جينبينغ أوضح أن أي تحقيق من هذا القبيل يجب أن ينتظر حتى تتم السيطرة على الأزمة الصحية العالمية، الأمر الذي يعني تفضيل بكين تأجيل التحقيق وامتصاص قوة الضغط الأميركية في هذا الشأن، في وقت يتعرض الرئيس ترمب لانتقادات واسعة في الداخل بسبب كيفية إدارته للأزمة الصحية. ولم يكتف الرئيس الصيني بذلك، بل أراد مقاومة الضغط الأميركي بشكل آخر، وهو الإعلان عن تبرع بلاده بمليارَي دولار لمحاربة الفيروس، مشيراً إلى أن بكين سترسل أطباء وإمدادات طبية إلى أفريقيا ودول العالم النامي، الأمر الذي جعل المسؤولين الأميركيين ينظرون إلى المبادرة الصينية على أنها محاولة لمنع التمحيص الدقيق خلال تحقيق منظمة الصحة العالمية، في ما إذا كانت أخفت معلومات حول تفشي المرض. مَن يدفع أكثر؟ تبلغ قيمة التبرع الصيني، الذي سيوزَع على مدى عامين، ملياري دولار، أي حوالي ضعف ما كانت الولايات المتحدة تقدمه للمنظمة قبل أن يقطع الرئيس ترمب التمويل الأميركي الشهر الماضي، ففي العام الماضي، ساهمت الولايات المتحدة بحوالى 553 مليون دولار من موازنة المنظمة البالغة 6 مليارات دولار، مقابل 43 مليون دولار تقدمها الصين سنوياً. لكن إدارة ترمب سعت إلى تحميل المنظمة والصين مسؤولية انتشار الفيروس الذي أودى بحياة أكثر من 315000 شخص حول العالم، بما في ذلك أكثر من 90000 في الولايات المتحدة وحدها، ما دفع الرئيس ترمب إلى إبلاغ المدير العام للمنظمة أنه سيوقف كل تمويل المنظمة بشكل دائم إذا لم تلتزم بإجراء تحسينات جوهرية خلال الأيام الثلاثين المقبلة، وفقاً لنسخة من رسالة نشرها على حسابه في موقع “تويتر”. سبب الغضب الأميركي وتكشف رسالة ترمب المؤلفة من أربع صفحات عن تذمر الرئيس الأميركي من المدير العام لمنظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، حيث ورد فيها بلغة صارمة ومباشرة، أنه “من الواضح أن الأخطاء المتكررة التي قمت بها أنت ومنظمتك في الاستجابة للوباء كانت مكلفة للغاية بالنسبة للعالم”.
وخلال اجتماعات المنظمة التي استمرت يومين، انتقد أليكس آزار وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركي، بشدة المنظمة في مشاركة عبر الفيديو، قائلاً إن “التعامل مع تفشي المرض في الصين أدى إلى وفيات غير ضرورية”، مضيفاً أن “فشل المنظمة في الحصول على المعلومات التي يحتاجها العالم أدى إلى تفشي المرض وخروجه عن السيطرة”، وهو ما نفته المنظمة مؤكدةً أنها شفافة ومفتوحة. ولا تقتصر الانتقادات الموجهة للصين على الإدارة الأميركية أو الحزب الجمهوري، إذ صرحت السناتور مارشا بلاكبيرن (جمهورية) أن “نبرة الانتقادات ضد الصين تتصاعد من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهناك إجماع على أن الحكومة الصينية أعاقت الاستجابة لتفشي المرض مبكراً، ولهذا تجب محاسبتها وأن تدفع ثمن ما ارتكبته من أخطاء”. وتقود السناتور بلاكبيرن عن ولاية تينيسي مشروع قانون يحمل اسم “أوقفوا كوفيد”، الذي يسمح للمواطنين الأميركيين بمقاضاة الصين بسبب وباء كورونا بعد رفع الحصانة السيادية عنها كما تم من قبل مع دول أخرى، الأمر الذي دفع صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية الصادرة باللغة الإنجليزية إلى انتقاد أربعة أعضاء في مجلس الشيوخ، والتحذير من أنهم سيكونوا معرضين لعقوبات اقتصادية مؤلمة نتيجة تحركاتهم ضد الصين.
فتح ملفات قديمة ومع زيادة حالة الاحتقان ضد الصين، شنت صحف أميركية هجوماً على بكين فتحت فيه ملف حقوق الإنسان، حيث أوضحت صحيفة “ناشيونال إنترست” أن “جائحة كورونا أظهرت العلاقة المباشرة بين قضية حقوق الإنسان وقضية المساءلة والصحة العامة، ذلك أن القمع الوحشي الذي تمارسه الصين ضد حرية التعبير وافتقارها للشفافية، منح مرض كورونا أجنحة يحلق بها إلى جميع أنحاء العالم، ومن سوء الحظ أن منظمة الصحة العالمية ومسؤولي حقوق الإنسان في الأمم المتحدة غضوا الطرف عن قمع الصين للمعلومات الحيوية، ما كشف إلى أي مدى يمكن أن يؤثر انتهاك حقوق الإنسان في العالم، ذلك أن الشفافية والمساءلة هما عناصر أساسية لديمقراطية فاعلة تحمي القوانين من خلالها المجتمع المدني من التقييد الحكومي، وتخدم المصلحة العامة عبر حماية المُبلغين عن المخالفات، ومنح الضحايا إمكانية تحقيق العدالة”. وأضافت الصحيفة أنه “في الأزمات الصحية مثل جائحة كورونا، يمكن للعاملين في المستشفيات والعيادات الخاصة والعامة وكذلك المواطنين والصحافيين، جذب انتباه الجمهور نحو الحقائق المهمة من خلال الشبكات الرسمية وغير الرسمية ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن في نظام الحزب الواحد في الصين تحتكر الدولة المعلومات وتُسكت المبلغين عن المخالفات، وتعترض سبيل العدالة، ويفرض الحزب الشيوعي الرقابة ليعيق قدرة الناس على حماية الصحة العامة عبر تبادل المعلومات في ما بينهم”.
وتقول أوليفيا إينوس كبيرة المحللين في مؤسسة هيريتاج، إن “القانون الصيني يحظر على أي مؤسسة الحديث عن أزمة صحية يعتبرها سراً من أسرار الدولة، ويقصر ذلك فقط على وزارة الصحة”. دبلوماسية صرف الأنظار في ظل هذه الأجواء، ليس مستغرباً أن تعمل الدبلوماسية الصينية على صرف الأنظار بعيداً من التدقيق الدولي، لكن الفيروس أظهر للعالم أن الصين لا تسعى فقط إلى تجنب المساءلة، بل تعمل على تغيير قواعد اللعبة من خلال إدارة الأزمة عن طريق الحزب الشيوعي، مثلما فعلت من قبل عند تفشي فيروس سارس عام 2003، وخلال زلزال وينشوان عام 2008، وغيرها من الكوارث الصحية مثل فضيحة ألبان الأطفال الملوثة عام 2008، التي تكتمت عليها بكين وفشلت منظمة الصحة العالمية في تحميل السلطات المسؤولية واكتفت بتوجيه اللوم إلى الشركة المنتجة.
وقبل ذلك لم يواجه الحزب الشيوعي الصيني أي نوع من المساءلة عن دوره في قصص أخرى مثل، البيض الملوث ومعجون الأسنان الملوث وألعاب الأطفال المطلية بمادة الرصاص. غياب المُساءلة تعتمد الاستجابة الدولية الفعالة لأي أزمة صحية، وبخاصة الأمراض المعدية، على المشاركة السريعة للبيانات العلمية والطبية الدقيقة والتنسيق بين المنظمات الدولية والحكومات الوطنية. ويعتمد ذلك جزئياً على ما إذا كان المسؤولون عن تبادل المعلومات والتنسيق يخضعون للمساءلة إذا فشلوا في أداء واجباتهم. لا يوجد أنظمة مساءلة من أي نوع في الصين بسبب نظام الحكم الخاص بها (حكم الحزب الواحد) وبسبب نفوذها المتزايد في الأمم المتحدة، ما جعل كلاً من منظمة الصحة العالمية ومسؤولي حقوق الإنسان يكرهون مواجهة الصين. على سبيل المثال رفضت الصين عام 2015، السماح باعتماد نص يؤكد الدور الحيوي للمجتمع المدني في قرار لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يتعلق بالصحة العامة، ما يظهر كيف أن الصين لا تسعى فحسب إلى حماية نفسها من الانتقادات، بل تضغط من أجل تأصيل منهج ثابت يخدم الدولة على حساب المجتمع المدني والأفراد.
اقرأ المزيد إدارة ترمب تعتزم استئناف تمويل “منظمة الصحة العالمية” الصحة العالمية تبدي تشاؤمها من إيجاد لقاح لكورونا وتصفه بـ”الفيروس المحير” بداية مرعبة لكورونا في اليمن و”الصحة العالمية” تحذر من جديد واشنطن تتهم “منظمة الصحة” بـ”وضع السياسة قبل المصلحة العامة” العالم لا يتفق مع ترمب بشأن منظمة الصحة العالمية تذبذب أرقام الإصابات والوفيات جراء كورونا يربك كل الحسابات هل أخطأت المنظمة؟ وفي ظل سياسة التحدي والانتقادات المتبادلة من الجانبين الأميركي والصيني، تجد منظمة الصحة العالمية نفسها في موقف لا تُحسد عليه قبيل بدء التحقيقات، بخاصة أن الولايات المتحدة رصدت تأخرها وربما انحيازها إلى الصين خلال مرحلة تفشي الفيروس، حيث لم تتحرك “المنظمة” لإدارة تحقيق مستقل حول التقارير التي تحدثت مبكراً عن تفشي الفيروس في الصين، وذلك ربما بسبب تصادمها مع رغبة الحكومة في بكين، إذ كان مكتب المنظمة في العاصمة الصينية على علم بوجود أزمة صحية ضخمة في إقليم ووهان. وفي 31 ديسمبر (كانون الأول) 2019، قدم مسؤولو الصحة في تايوان معلومات تشير إلى أن الفيروس ينتقل من إنسان لآخر عبر الهواء، لكن منظمة الصحة لم تنشر هذه المعلومات أو تتبادلها مع الدول الأخرى في العالم. وفي 14 يناير (كانون الثاني) الماضي، اتخذت منظمة الصحة موقفاً مماثلاً لموقف الحكومة الصينية، وقالت على حسابها في “تويتر”، إن الفيروس لا ينتقل من شخص إلى آخر، وأن التحقيقات الأولية التي أجرتها الحكومة الصينية لم تجد دليلاً واضحاً بانتقال الفيروس عبر الهواء في ووهان، بينما كانت هناك تقارير أخرى حجبتها الحكومة الصينية تؤكد أن الفيروس ينتقل بين الأشخاص بسهولة.
اعتراف متأخر ووفقا لتقرير وكالة “أسوشيتد برس”، فإن مسؤولين في الحزب الشيوعي الصيني أقروا يوم 14 يناير أن الفيروس قد ينتقل من شخص لآخر، لكنهم اتخذوا قراراً بعدم نشر المعلومة عبر الإنترنت وعدم الكشف عنها علانية. وفي 20 يناير، كشف مسؤولو الحزب الشيوعي أن انتقال الفيروس من شخص إلى آخر مُحتمل، وبعد ثلاثة أيام اعترفت منظمة الصحة العالمية أن الفيروس ينتقل من شخص لآخر، وأعلنت حالة الطوارئ الصحية الدولية. شبهات في المنظمة وتدور شبهات كثيرة في الأوساط الأميركية حول المدير العام للمنظمة الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الإثيوبي الأصل، إذ انتُخب بدعم كبير من الصين، وهو أول رئيس يقود المنظمة منذ 72 سنة من غير المتخصصين في العلوم الطبية، فقد درس البيولوجيا (علم الأحياء) في درجة البكالوريوس، وحصل على درجة الماجستير في مكافحة الأمراض المُعدية ثم الدكتوراه في الصحة المجتمعية.
وكشفت تصريحاته المتكررة عن انحياز واضح للصين، فقد هنأ الحكومة الصينية على الإجراءات الاستثنائية الناجحة التي اتخذتها لاحتواء المرض، مؤكداً أنه ليس لديه شك في التزام الصين بالشفافية، بل أوضح أن إعلانه حالة الطوارئ الصحية الدولية ليس تصويتاً بعدم الثقة في الصين، بل على العكس واصلت المنظمة ثقتها في قدرة الصين على احتواء تفشي الفيروس. وخرج تيدروس بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس ترمب حظر السفر من الصين إلى الولايات المتحدة، ليقول إنه لا يوجد سبب للإجراءات غير الضرورية بالتدخل في حركة السفر والتجارة الدولية، بل دعا جميع دول العالم إلى تنفيذ قرارات تستند إلى أدلة وبراهين.
وفي 3 مارس (آذار) الماضي، قال تيدروس إن كوفيد 19 لا ينتقل مثل الإنفلونزا، وأن الدلائل الآتية من الصين تشير إلى أن 1 في المئة فقط من الحالات المصابة لم تظهر عليها أعراض المرض، على الرغم من أن خبراء آخرين في اليابان وكوريا الجنوبية أكدوا عكس ذلك تماماً في هذا التوقيت. ولم تتحرك المنظمة إلا في 11 مارس لتعلن أن كوفيد 19 وباء عالمي، ولعل ذلك هو ما دفع ترمب إلى القول إن الأخطاء المتكررة لتيدروس ومنظمته في الاستجابة الفاعلة للوباء كانت مكلفة للغاية بالنسبة للعالم، وإن الطريق الوحيد أمام منظمة الصحة العالمية هو أن تُظهر استقلاليتها عن الصين، وإذا لم تلتزم بإجراء تحسينات على أدائها خلال شهر من الآن ، فسيُجمّد التمويل الأميركي بشكل دائم. ويرى مراقبون أن نهج وأسلوب المنظمة يجب أن يتغير، بخاصة بعدما كشف موقف أكثر من مئة دولة استياءً واضحاً تجاه المنظمة وقيادتها، وأجبروها على إجراء تحقيقات مستقلة، غير أن الأسابيع القليلة المقبلة ستحسم من هو المنتصر في معركة السيطرة على منظمة الصحة العالمية.
طارق الشامي
اندبندت عربي