بعد نحو خمس سنوات على صدور أول قرار عن المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في مارس/آذار 2015، وبعد نحو عامين على آخر جلسات للمجلس في أغسطس/ آب 2018، التي جرى التأكيد فيها على قطع العلاقات مع إسرائيل ووقف العمل بالاتفاقيات كل الاتفاقيات الموقعة معها، بما فيها التنسيق الأمني والاقتصادي، وسحب الاعتراف، أو بالأحرى تعليق الاعتراف بها، إلى حين الاعتراف بدولة فلسطين إلخ.
بعد طول الانتظار أصبح الفلسطينيون، أو بالأحرى منظمة التحرير، التي وقعت اتفاقية أوسلو، ووليدتها السلطة الفلسطينية، في حل من جميع الاتفاقيات، ليست الموقعة مع إسرائيل فحسب، بل الموقعة مع الولايات المتحدة أيضا، وما لهذا القرار من تداعيات. والمقصود فيها اتفاقيات أمنية، وفي مقدمتها اتفاقية أوسلو المشؤومة عام 1993، التي رعاها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في البيت الأبيض، ودول العالم ومنظماته الدولية في البيت الأبيض.
هذا ما أعلنه الرئيس أبو مازن في خطاب مفتوح، خلال اجتماع القيادة الفلسطينية مساء يوم الثلاثاء الماضي. هناك من يقول إن القرار جاء متأخرا، وهناك من يشكك في النوايا، لكن أن يأتي القرار متأخرا أفضل من ألا يأتي أبدا، والتشكيك في النوايا لا يقدم ولا يؤخر. القضية ليس في اتخاذ القرار، بل الاستعدادات والتحضيرات لتنفيذ هذا القرار وتداعياته على الأرض وهي كثيرة وكثيرة جدا، لذا يثير هذا القرار العديد من التساؤلات والاستفسارات التي تحتاج إلى إجابات. في مقدمة هذه التساؤلات:
هل اتخذ القرار بناء على قراءة صحيحة لقدرات وعناصر القوة الذاتية الفلسطينية، والقدرة على تحمل العواقب؟ وهل جاء بالتنسيق مع الأصدقاء والحلفاء لضمان الاعتراف بدولة فلسطين من قبل الدول غير المعترفة حتى الآن، وعلى أرضية العمل على طرد دولة الاحتلال من المنظمات الدولية مثل، الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها دولة خارجة عن القانون الدولي؟
وإذا كان الاعتماد على قوانا وقدراتنا الذاتية، فاين هي التحضيرات الفلسطينية على الأرض لمواجهة تداعياته؟ هل أعددنا جمهورنا إلى المرحلة التالية التي بالتأكيد تحتاج إلى صبر وشد أحزمة وتضحيات جسام ونضال. هل رتبنا أوراقنا وسددنا الثغرات ونقاط الضعف؟ نأمل أن تكون اللجنة المنبثقة عن المجلس المركزي للإعداد لهذه اللحظة قد أتمت أعمالها، ووضعت خططها للمواجهة المقبلة لا محالة. هناك من يقول من أعضاء اللجنة إنه سيجري البدء بالتطبيق العملي على الأرض! أم إن هذا القرار جاء على أرضية أن العالم سيهب لنجدة السلطة والقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني؟
وفي التفاصيل الدقيقة التي لا يكتمل فك الارتباط مع دولة الاحتلال من دونها:
هل لدى مسؤولي السلطة، وبعض قوى المعارضة، الاستعداد للتخلي عن الامتيازات التراكمية، التي حققوها على مدى27 عاما من اتفاقية أوسلو حتى الآن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، بطاقات الشخصيات المهمة VIPالتي تمنحها لهم سلطات الاحتلال، والسيارات الفارهة والمرافقون والسائقون، وهل اتخذت الخطوات العملية لتحقيق ذلك؟ وكيف ستكون تفاصيل خطة الفصل مع دولة الاحتلال؟ كيف ستسلم السلطة، أو الدولة تحت الاحتلال صلاحياتها إلى الإدارة المدنية الاحتلالية في الضفة؟ وهل ستوقف دفع رواتب العاملين في مؤسسات الصحة والتعليم والأمن والبلديات، وكل التفاصيل الإدارية مهما صغر حجمها؟
رغم أهمية الدعم الخارجي عربيا ودوليا، يبقى الأهم هو الوضع الداخلي، الذي يحتاج فيه شعبنا لأرضية صلبة يقف عليها
وكيف ستتعامل مع قضية المقاومة الشعبية من بين قضايا أخرى؟ هل ستطلق العنان للشعب الفلسطيني للتعبير عن مقاومته وممارستها بالشكل الذي يرتأيه؟ وإذا كان العنف بجميع أشكاله ليس من ضمن خطط القيادة الفلسطينية، للرد على المخططات الإسرائيلية، كما زعمت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، فما هي البدائل؟ وهل هي موجودة أصلا؟ وهل الانتفاضة الشعبية أحدها؟ وهل المقاومة على غرار ما حصل في بلدة يعبد، جزء من المقاومة الشعبية؟ وهل التصدي للمستوطنين واعتداءاتهم بالعنف ضمن مخططات المقاومة الشعبية التي تسمح بها القيادة الفلسطينية؟
في المقابل ما هي خطط فصائل المعارضة، وهل وضعت الاستراتيجيات لمواجهة الوضع الذي طالما طالبت به، ولكن وقبل أي شيء، على البعض أن يوقف التشكيك بالنوايا، ووقف تكسير المجاديف، كما يقال، بأقوال من شاكلة «استبعد أن تشهد القرارات الصادرة عن الرئيس الفلسطيني تطبيقاً عملياً على أرض الواقع، كما كان الحال مع القرارات التي صدرت عن المجلسين المركزي والوطني، معتبراً أن ما جرى مناورة جديدة». يا سيدي هذا كلام مضر جدا ولا يسمن ولا يغني من جوع، وبدلا من هذا الكلام المحبط ليس لأبو مازن، بل للشعب الفلسطيني بأكمله، فشدوا على أيادي الرجل وحاسبوه إذا لم يطبق.
وهل هناك مخططات حقيقية لفصائل المعارضة لمواجهة الوضع الجديد، أم إنها ستواصل ترديد الديباجة والشعارات الطنانة نفسها بالحديث العام عن مواصلة المقاومة إلخ. سنظل نعتمد على سياسة «سننتقم لشهدائنا، وسنرد الصاع صاعين، وسنزلزل الارض تحت أقدام المحتل، ونحن الذين نحدد الزمان والمكان…». أما اذا كان الاعتماد بالاساس على قوى خارجية كالاتحاد الاوروبي، ودول عربية، فتجاربنا السابقة أثبتت أننا لن نأخذ منهم أكثر من الأقوال، وأقصى ما يتوقع منهم هو وقف مؤقت لاتفاق تجاري هنا، واتفاق اقتصادي هناك، واستدعاءات لسفير وتوبيخه.
وما قالته حنان عشراوي عن تعرض القيادة الفلسطينية لضغوط شديدة، للتراجع عن قرارها ودعوات «التفكير خارج الصندوق»، تثير المخاوف، وما هو التفكير خارج الصندوق؟ وما البديل الذي تطرحه هذه الدول الضاغطة؟ ألم يكن متوقعا، أو ألم يحسب حساب هذه اللحظة؟ وحتى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وعلى غرار جدعون ليفي الكاتب الصحافي اليساري الإسرائيلي، تحذر من الرهان الفلسطيني على الاتحاد الأوروبي، كونه عاجزا عن القيام بأي دور مؤثر، في ظل إدارة ترامب، وفي ظل وجود خلافات داخلية بين دوله، التي يؤيد بعضها إسرائيل بشكل فوري.
وعربيا فلا نتوقع أكثر من إدانة، ورفض لفظي من الآن وحتى يوم الدين. وبالنسبة للدول ذات العلاقات الدبلوماسية مثل مصر والأردن، فالاولى ستكتفي بقرار من جامعة الدول العربية، أما الثانية فقد تتخذ خطوة متقدمة بسحب السفراء، إلى حين زوال الزوبعة وتعود المياه إلى مجاريها، واذا قرأنا بين السطور في ما قاله رئيس الوزراء عمر الرزاز، حول إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، في حال مضت قدما بخطتها لضم أراض فلسطينية محتلة، ليس فيه موقف واضح وتهديد صريح بقطع العلاقات مع إسرائيل، وإلغاء اتفاق سلام وادي عربة عام 1994، مكتفيا بالقول «إعادة النظر!».
وعلمتنا التجارب أيضا أن هذه الانظمة لا تهتز لها قصبة، ولم تعد تؤثر فيها لا «قضية وطنية» ولا غير وطنية، ولا يهمها سوى الحفاظ على نفسها أمنيا، بالتنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلية. أما في دولة مثل إمارات محمد بن زايد، فلا يهمها شيء إلا أن تحتل كما في أشياء كثيرة، المرتبة الأولى حتى في العلاقات مع إسرائيل.
ونختتم بالقول إننا نتوقع أن تكون القيادة الفلسطينية، وقبل أن تقدم على خطوة التحلل من الاتفاقات الموقعة، قد صاغت برنامجا وطنيا فلسطينيا، وأعادت ترتيب أوضاع البيت الفلسطيني الداخلي، إضافة إلى صياغة خطة مستقبلية تفصيلية، يقف خلفها جمهور منظم وحاضنة اقتصادية وسياسية، كما قال محلل سياسي آخر. ورغم أهمية الدعم الخارجي عربيا ودوليا، يبقى الأهم هو الوضع الداخلي، الذي يحتاج فيه شعبنا لأرضية صلبة يقف عليها، ويحتاج إلى نبذ الخلافات والمصالح الذاتية والفصائلية ووقف المزايدات، التي لم يعد لها مكان في أوساطنا، فالقضية اكبر من فرد واكبر من تنظيم أو فصيل، وتوحيد القوى ورص الصفوف، وإعادة ترتيب الأولويات على قاعدة إلحاق الهزيمة بأعدائنا وتحقيق النصر، وشعبنا قادر ولديه من المقومات والقدرات والتجارب والخبرات ما تسمح له بتحقيق النصر المبين، وإزالة الاحتلال وتحقيق الاستقلال، نعم إنه قادر وسيفعل.
علي الصالح
القدس العربي