هناك اتجاه واسع في الأوساط الأكاديمية يري أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها فشلا في تحقيق أهدافهما المعلنة من حربي أفغانستان والعراق، وهو الفشل الذي تجلي في ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والمعروف إعلاميا بتنظيم “داعش”، ذلك التنظيم الأكثر تطرفا من سابقيه.
وقد رأي بعض المحللين أن الحرب الأمريكية علي الإرهاب لم تفشل فقط في منع مثل تلك التنظيمات الراديكالية من الظهور في منطقة الشرق الأوسط، بل إن تدخلاتها العسكرية غير المنضبطة في المنطقة، ودعمها لحكام ينتهجون سياسات طائفية، أديا في نهاية المطاف إلي تمهيد الطريق لصعود هذه التنظيمات وتمددها في المنطقة.
في هذا السياق، يتناول الكاتب الأيرلندي المتخصص في شئون الشرق الأوسط، والصحفي في صحيفة الإندبندت البريطانية، باتريك كوكبيرن، في كتابه المعنون بـ “صعود الدولة الإسلامية: الدولة الإسلامية في العراق والشام والثورة السنية الجديدة”، العوامل التي أدت إلي ظهور تنظيم “داعش”، وأبرزها تداعيات الحرب الأمريكية علي العراق، وتقديرات الغرب الخاطئة في الأزمة السورية.
إرهاصات تنامي التيار الجهادي في الشرق الأوسط:
كانت نقطة البداية لكوكبيرن هي ثمانينيات القرن المنصرم، حيث تصاعدت حدة الصراعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، وتعددت جهاتها. وقد ركز الكاتب بشكل مكثف علي الغزو السوفيتي لأفغانستان، والذي قامت علي إثره الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية، وباكستان بدعم الجماعات الجهادية هناك، حتي تم التخلص من القوات السوفيتية. وعقب ذلك، تحولت تلك الجماعات الجهادية التي شاركت في دحر الغزو السوفيتي من “المقاتلين من أجل الحرية” إلي جماعة “طالبان”، حيث تم غرس جذور أيديولوجية تنظيم “القاعدة” بين هؤلاء المجاهدين.
ويضيف الكاتب أن شن الحرب الأمريكية علي العراق عام 2003، بشكل أحادي وغير قانوني، مكن تنظيم “القاعدة” من إيجاد موطئ قدم جديد له في الشرق الأوسط، تحت ذريعة مواجهة الاحتلال الأمريكي في العراق. وفي البداية، دعمت القبائل السنية تنظيم “القاعدة”، علي خلفية ما عانته من ظلم وتهميش، ولكن سرعان ما تلاشي هذا الدعم، عندما تشكلت قوات الصحوات السنية -بدعم أمريكي- لمواجهة خطر تمدد تنظيم “القاعدة” في العراق.
وفي تحليله لتنامي التيار الجهادي في الشرق الأوسط، يركز المؤلف علي شخصية “أبي مصعب الزرقاوي”، الذي أسهمت جهوده الميدانية في العراق، وأفكاره الأكثر تطرفا في تمهيد الطريق لظهور تنظيم “داعش”، حيث يذكر أن الأردني “أبي مصعب الزرقاوي” قد انضم إلي جهاديي أفغانستان عام 1989 في أواخر حربهم ضد السوفيت. وعندما عاد إلي الأردن، قام بالتخطيط لعدة هجمات إرهابية، حتي تم اعتقاله.
وما إن تم إطلاق سراحه، حتي عاد إلي أفغانستان، ثم توجه إلي العراق، عقب العزو الأمريكي له، ليؤسس “جماعة التوحيد والجهاد”، التي صارت فيما بعد فرعا لتنظيم “القاعدة” هناك، حيث قاد أعمال عنف وحشية، حتي مقتله عام .2006
كيف تمدد تنظيم “داعش”؟
يري كوكبيرن أن الحرب الأمريكية علي العراق خلفت دولة غير مستقرة إلي حد كبير، تعاني نيران الطائفية. فقد لقي السنة تهميشا سياسيا واقتصاديا من جانب حكومة ذات أغلبية شيعية، تمارس سياسات طائفية بامتياز، مما أدي لتقسيم العراق فعليا إلي ثلاثة أجزاء: الأكراد في الشمال الشرقي، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب.
وقد كان اعتصام الأنبار في أواخر عام 2013 نتيجة طبيعية للغضب الكامن لدي القوي السنية في العراق، حيث تمكن البغدادي -زعيم تنظيم “داعش”- من استثمار ذلك الغضب، واستغلال هذا الاعتصام لترسيخ وجود التنظيم في العراق، والتمهيد لاجتياح المدن العراقية، والاستيلاء عليها.
وجدير بالذكر أن بعض أوجه الاقتتال الطائفي التي شهدتها سوريا وفرت للبغدادي العديد من المجاهدين، الذين هم خليط من السنة المحرومين، ومجموعات مجهزة ومدربة جيدا من الإسلاميين المتشددين، ليتمكن البغدادي في نهاية المطاف من جعل تنظيمه المقاتل أكبر حجما، وأكثر فاعلية.
وقد قدمت الثورة السورية -التي وصفها كوكبيرن بأنها نسخة الشرق الأوسط من حرب الثلاثين عاما في ألمانيا في القرن السابع عشر- وما تبعها من تفكك واقتتال داخلي فرصة جديدة لصعود وتمدد تنظيم “داعش”، سواء علي المستوي الأفقي، أو الرأسي، حيث تمكن التنظيم من الاستيلاء علي أجزاء كبيرة من شرق سوريا، كما تمكن من ضم العديد من المجاهدين، والسيطرة علي المزيد من الأسلحة والأموال.
وفي السياق نفسه، يشير كوكبيرن إلي أنه من غير المرجح أن يتصدي القطاع الأوسع من السنة لمواجهة تنظيم “داعش” بسبب نجاح التنظيم في امتلاك عناصر القوة بشكل غير مسبوق لأي تنظيم جهادي في المنطقة. فقد نجحت “داعش” في الاستيلاء علي الجانب الأكبر من الأسلحة التي يقوم حلفاء الولايات المتحدة، مثل قطر وتركيا، بإرسالها إلي القوات التي تقاتل نظام بشار الأسد في سوريا. كما أنها تمكنت، من خلال هجماتها الموسعة علي السجون العراقية، من تحرير المئات من المقاتلين، فضلا عن نجاحها في اقتناص التمويل الخليجي الذي كان يذهب إلي ساحات الحرب في سوريا.
أسطورة الحرب علي الإرهاب:
حاول كوكبيرن دحض ما سماه أسطورة “الحرب علي الإرهاب” التي مثلت الذريعة الأمريكية للتدخل في شئون منطقة الشرق الأوسط عبر العقود المنصرمة. كما أقر كوكبيرن بأن الولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية صعود تنظيم “داعش”، بدرجة أكبر من العراق وسوريا، كدولتين حاضنتين لبيئة خصبة لنشأة الإرهاب، وصعوده، وبقدر أكبر من تركيا، التي يري أنها شبه داعمة لهذا التنظيم.
ويقول الكاتب إن تصاعد وتيرة التمرد السني في العراق، الذي مهد الطريق لصعود تنظيم “داعش”، قد تم علي مدي السنوات الماضية تحت مرمي ومسمع الولايات المتحدة، التي فشلت -أيضا- في رؤية أن دعم الانتفاضة المسلحة في سوريا سيتسبب في زعزعة استقرار العراق والمنطقة بأكملها، لتخوض جولة جديدة من الحرب الطائفية. وفي سبيل تحقيق مصالحها الخاصة، تحالفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع أنظمة ثيوقراطية مطلقة في المنطقة العربية.
يخلص كوكبيرن في النهاية إلي أن تنظيم “داعش” يعد “ابن الحرب”، فالولايات المتحدة، وأوروبا، وحلفاؤهما من الدول الإقليمية هي التي خلقت الظروف لصعود التنظيم. ويؤكد أن الحرب علي الإرهاب، التي قادتها الولايات المتحدة في المنطقة لعدة سنوات، أخفقت بشكل كارثي، وفشلت بشكل بائس، لأنها لم توقف عملية صعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة، بل إنها أسهمت في خلق المزيد من الإرهابيين ردا علي العديد من ممارساتها العنيفة التي تستهدف المدنيين أكثر من استهدافها للإرهابيين.
وهكذا، تتلخص رسالة كوكبيرن في أن الحرب علي الإرهاب لم تكن سوي غطاء هدفت من خلاله الولايات المتحدة إلي صيانة نفوذها، وضمان هيمنة أجندتها الجيوسياسية للسيطرة علي المنطقة، بالإضافة إلي أنها إحدي وسائل الدعاية السياسية، التي يتم ترويجها في مواجهة أزمات الداخل الأمريكي التي تهدد بأن تعصف بكبار الساسة هناك.
عرض: محمد محمود السيد
المؤلف: باتريك كوكبيرن