بين الشعبية والمصلحة العليا: هل اجتاز السيسي الاختبارات الصعبة؟

بين الشعبية والمصلحة العليا: هل اجتاز السيسي الاختبارات الصعبة؟

3749

يُختبر الرؤساء والقادة أمام الشعوب والتاريخ بوسائل متعددة، من أول الرخاء الذي يحققونه، وحتى مواجهة الأزمات التي يتعرضون لها، وفي المقدمة منها تلك الأزمات المتعلقة بقرارات الحرب والسلام. الأزمة بحكم التعريف حالة استثنائية، صعبة، ومعقدة، وفيها عناصر تهديد قيم عليا تستحق الدفاع عنها باستخدام القوة المسلحة؛ ولكن فيها أيضًا الشك وعدم اليقين، والمعلومات غير الكاملة عن الخصم أحيانًا، والمدى الذي يصل إليه، وعن الصديق أحيانًا أخرى، والقدر من الإمكانيات الذي يمنحه لهذه الصداقة.

وخلال العام الأول اختُبر الرئيس السيسي أكثر من مرة، بدءًا بموضوع رفع الدعم، وانتهاء بمشاركته في حفل تنصيب الرئيس السوداني، وزيارته إلى ألمانيا. بيد أن التركيز هنا سيكون على الاختبارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، وهي تحديدًا قضية مياه النيل مع إثيوبيا، والثانية إزاء قيام الحوثيين بالاستيلاء على السلطة في اليمن، والثالثة إتمام الزيارة إلى ألمانيا. في الأولى كانت القيمة العليا هي الفارق بين الحياة والموت بالنسبة للمصريين، فسواء كان النيل هبة المصريين، أو أن مصر كانت هبة النيل، فإن كليهما يعني قيمة عظمى وحيوية. وفي الثانية فإن الرابطة ما بين مصر وأمن الخليج باتت لا تنفصم، ولم يعد هناك فارق بين مضيق هرمز، وباب المندب، أو قناة السويس، حيث يقع الكل في إطار مسرح استراتيجي واحد.

أولا- أزمة المياه و”عاصفة الحزم”:

منذ توليه مقاليد الحكم قبل عام من الآن، شاع في الخطاب السياسي المصري أن الرئيس عبد الفتاح السيسي هو أقرب منهجيًّا للرئيس جمال عبد الناصر بسبب ما منحهما الله من «كاريزما» وتأثير في آذان المستمعين وأعين الناظرين. ولكن تجربته مع الاختبارين السابق الإشارة إليهما تشير إلى أن الرئيس السيسي في حقيقته أقرب بكثير إلى الرئيس السادات. بالطبع فإن كافة المشابهات التاريخية ناقصة، وربما خادعة، ولكنها أحيانًا ضرورية للفهم، والاقتراب. في «أزمة مياه النيل» لجأ السيسي إلى منهج ساداتي نقي حينما اختار نهجًا للتفاوض لا يقوم على ما شاع من طريقة «التجار» حيث المساومة والمبادلة حتى يستقر الجدل على أفضل الأسعار المناسبة، ولا على المنهج «القانوني» الذي يتبارى فيه كل طرف في إثبات شرعية مقصده مستعينًا بالشهود والقانون الدولي؛ وإنما على أسلوب تغيير «البيئة التفاوضية» تمامًا، من الخصومة أو التناقض أو الاختلاف إلى وجود مصلحة مشتركة في التوصل إلى حل في خدمة هدف عظيم. كان ذلك هو ما فعله السادات عندما ذهب إلى القدس، وعندما ألقى خطابًا في الكنيست، وعندما قام بعقد إعلان للمبادئ في كامب دافيد، حتى جرى توقيع اتفاقية السلام. الرئيس السيسي في المقابل ذهب إلى أديس أبابا، وألقى خطابًا في البرلمان الإثيوبي، وذلك بعد أن وقَّع إعلانًا للمبادئ في الخرطوم، تمهيدًا لتوقيع ثلاث اتفاقيات فنية. الأول جعل السلام جائزة مشتركة، والثاني جعل اتفاقية إطارية تُرضي الجميع جائزة كل دول حوض النيل.

في أزمة يونيو ١٩٦٧ التي انتهت باحتلال الأراضي المصرية للمرة الثانية خلال عقد واحد تقريبًا، ذهب عبد الناصر إلى الأزمة ونصف جيشه في اليمن، وهو في تناقض كبير مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ذهب وحده إلى حرب قتلته في النهاية. السادات ذهب إلى حرب أكتوبر ومعه كل العرب، تقاسموا معه المهام والمعارك، وبينما كان الجيش المصري يقاتل في سيناء بمعاونة عدة كتائب عربية؛ فإن السعودية قادت الحظر البترولي. لم يكن النفط أغلى من الدم، ولكن كلا منهما كان له دور ونصيب من نصر عظيم. السيسي يذهب هذه المرة إلى اليمن في صحبة السعودية، ودول الخليج، ودول عربية وإسلامية أخرى، لم يكن وحيدًا، ولا يأخذ مصر إلى معركة لم تعد لها العدة، وإنما ذهب في تحالف عربي قوي تحدث عنه عبد الناصر كثيرًا، ولكنه خلق حوله قدرًا هائلا من الفرقة.

ثانيًا- زيارة ألمانيا والسودان:

أثارت زيارةُ الرئيس إلى ألمانيا كثيرًا من اللغط، خاصةً بعد إعلان رئيس البرلمان الألماني عن رفضه مقابلة الرئيس. ومن ثَمَّ بدا أن رفض الرئيس إتمام الزيارة سوف يُعطيه مزيدًا من الشعبية، على اعتبار أن ذلك الرفض يمثل إهانة بالغة للشرف القومي، تستوجب رفض الزيارة وربما مقاطعة ألمانيا. كما أثار الإعلان عن قبول الرئيس دعوة حضور تنصيب الرئيس السوداني عمر البشير جدلا كثيرًا أيضًا. فكيف يحضر حفلا لشخص مطلوب للعدالة أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ وتم تصوير الأمر كما لو أن وظيفة الرئيس هي أن يحصل على الشعبية، ويصل بها إلى عنان السماء إذا استطاع.

وفي الواقع، فإنه لا يُوجد في كتاب “المصالح” المصرية، ولا في صحيفة “المستقبل” المصري، ما يدفع إلى إلغاء زيارة ألمانيا التي تُعدُّ مفتاح أوروبا والاتحاد الأوروبي كله. القضية هنا ليست فقط مجموعة من المشروعات التي تقدمت بها شركات ألمانية في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، وإنما هي إرساء العلاقات على أسس جديدة تتجاوز الجدل حول ثورة يونيو بين مصر الدولة وألمانيا الدولة أيضًا. ولعل أهم هذه الأسس هي الإيمان بأن الساحة الداخلية لكل طرف مفتوحة على مصراعيها لآراء متعددة، بعضها فيه خصومة، وبعضها فيه تعاون وربما ود. ولكن وظيفة الرئيس، والقيادة، هي أن تقلص من الأولى، وتضاعف من الثانية. فلم تعد زيارات الرؤساء إلى دول أخرى مناسبات احتفالية، تخرج فيها الجماهير رافعة أعلام الرئيس الضيف، وتهتف باسم بلاده دلالة على عمق العلاقات بين البلدين، ثم ينقلب الحال فتحرق الأعلام وتسبق اللعنات خطوات الرئيس. الزيارات الرسمية الآن هي جزء من عملية تفاعل كبيرة، ولدى الرئيس في ألمانيا ومن ورائها أوروبا مهمة صعبة، وهي إقناع الجميع ليس فقط بالاستثمار في مصر، أو المشاركة في الحرب ضد الإرهاب، وإنما التأكيد على أن في مصر قضاء مستقلا وحريصًا على استقلاله، وفيه من آليات المراجعة والتحقق والنقض ما يكفي لتحقيق العدالة في النهاية. البناء وخلق الحقائق على الأرض في القانون والاقتصاد والسياسة هو تذكرة الدخول إلى العالم دون مظاهرات وهتافات. ولكن هناك إجراءات مكملة خاصة فيما يتعلق بالعالم المتقدم، وهذه لا ترتبط بالضرورة بمناسبة زيارة الرئيس لبلد في العالم الغربي مثل ألمانيا، ويقع في أولها دعم المصالح المادية، فالحديث من خلال شركات سيمنز، وجنرال إلكتريك، وبريتش بتروليم، يختلف كثيرًا عن مظاهر التأييد الفاقعة.

هنا فإن مصر تظهر للعالم بما يجب أن تظهر عليه، وهي أنها ليست مجرد “عبقرية جيوسياسية” كما روج لها جمال حمدان، ولكنها أكثر من ذلك معجزة “جيواقتصادية”، وفوقها “جيوثقافية” وسط إقليم جفت فيه منابع الدهشة والإبداع، ليس في الفن، ولكن في التعامل مع الجماعات، والأقليات، والمذاهب.

ومما لا شك فيه، فإن زيارة الرئيس لألمانيا كانت دخولا لعين العاصفة التي هبت على مصر منذ ثورة يونيو ٢٠١٣ وحتى الآن؛ ولكن لا بد من إدراك أن الحال لم يعد كما كان، ليس فقط لأن زيارة برلين تمت وهي التي تعد قلعة للجماعة الإخوانية، وإنما لأن جوهر الزيارة كان في النهاية هو كيف تساهم تلك الزيارة في بناء مصر. من هنا كان نجاح الزيارة التي كان ممكنًا أن تكون أكثر لو أنها ركزت على جوهرها، فالمصريون الآن شبوا عن الطوق، ولا يضعف من عزيمتهم مظاهرة الجماعة، أو اعتراض مصرية في المؤتمر الصحفي، فلديهم بلد يحتاج موجات مستمرة من الإصلاح، ولديهم إقليم انفجر بالحروب الأهلية والدول الفاشلة، ولديهم دِينٌ جرى اختطافه على يد قطاع الطرق والإرهابيين. هذه الحزمة من الأمور المصيرية تجعل كل ما عداها صغيرًا، وعندما تصل إلى الدول الغربية فإن توجهنا يجب أن يقوم على المصلحة المادية، ولقاء العقول التي تشارك في بناء العالم، والتعلم من تجارب دول جرى تدميرها وأعيد بناؤها من جديد خلال أقل من عقد، ونحن نستطيع ذلك في سنوات خمس.

أما فيما يتعلق بالسودان فلا توجد حاجة للتأكيد على أهميتها، ليس فقط كدولة شعبها شقيق، وحدودها جار الجنوب الذي لن تتغير جغرافيته لغضب على مصير الشعب السوداني، ومنها تأتي مياه النيل في أزمنة حرجة جاءت بعد فترة ارتُكبت فيها أخطاء فادحة. وبصراحة فإن حكم المحكمة الجنائية الدولية يخص آخرين من أول الشعب السوداني، وحتى المجتمع الدولي؛ ولكن ما يخص الرئيس هو الأمن الاستراتيجي والمائي المصري، وإذا كان حضور احتفال التنصيب سوف يُساعد في ذلك فإن الحضور واجب.

ثالثًا- الرئيس والحاجة لرئاسة مختلفة:

لدى الرئيس السيسي مهام جسام، لا يقل أي منها في الأهمية عن إدخال مصر إلى القرن الحادي والعشرين، وتجديد الفكر الديني، وتحويل مصر إلى دولة متقدمة، علاوةً على الانتصار في الحرب ضد الإرهاب. ولكن كيف يتأتى له تنفيذ برنامجه بينما رئاسة الجمهورية ليست مؤهلة لكي تضع له خريطة للزمن Time Line لتحقيق هذه الأهداف، بل على العكس من ذلك فإنها تُغرق الرئيس في اجتماعات، بعضها يستمر خمس ساعات كاملة، لأنه بدلا من أن يكون له مستشار واحد في كل ملف من الملفات المهمة (الاقتصاد والأمن في المقدمة)، ويقوم بديلا عنه في استشارة من يراه، فإن رئيسنا أصبح لديه مجلس كامل من عشرات المستشارين في كل قضية، يستحيل عمليًّا مع عددهم الهائل تقديم مشورة حقيقية. وبدلا من أن يكون لدى الرئيس كبير لموظفي الرئاسة يقوم بمتابعة تنفيذ قرارات الرئيس، والتنسيق مع عدد معقول من المستشارين؛ فإنه تحول من مسئول سياسي بالدرجة الأولى إلى شخصية «بروتوكولية» وإدارية.

النتيجة كما كان الأمر في عصور سابقة، أنه صار لدينا رئيس قوي بالشعبية والكاريزما والرؤية لمستقبل البلاد، ولكن لديه رئاسة لا تقدم العون المطلوب للقيام بالمهمة السامية. الرئيس، بحكم التعريف السياسي والقانوني والدستوري، هو قائد البلاد الذي يأخذها إلى اتجاه يحقق طموحاتها خلال السنوات المقررة لحكمه، وممثلها في المحافل الدولية بالعداء والخصام والتعاون والتحالف من أجل حماية مصالحها العليا، وهو قبل هذا وذاك يقف على رأس السلطة التنفيذية المنوط بها تعبئة موارد البلاد لتحقيق أهدافها. أداة الرئيس الأولى لأداء هذه المهام هي «مؤسسة الرئاسة» التي تتحول -سواء في النظم الرئاسية أو شبه الرئاسية مثلنا- إلى أن تكون «الموتور» الذي يحرك باقي أركان السلطة التنفيذية، بما فيها مجلس الوزراء والمحافظون، وكذلك التوافق مع السلطة التشريعية على الأجندة الخاصة بالقوانين في الدولة، ورغم الاستقلال المقدر للسلطة القضائية فإن هناك أدوات كثيرة تُستخدم للتفاهم والتعرف على التفسيرات المختلفة للقوانين، ومدى تعارضها مع الدستور.

في مصر جرت العادة منذ وقت طويل على أمرين فيما يخص المؤسسة المهمة في الدولة: أن لا أحد يعرف من هم العاملون حقًّا في «الرئاسة» أي الذين يفترض منهم تقديم النصح والمشورة من ناحية، ويُفعِّلون وقت الرئيس واهتماماته، وفي بعض الأحيان يتقدمون الرئيس في شرح السياسات وتجهيز الرأي العام لقبولها. وحتى عندما يكون معلومًا اسم مستشار بعينه، فإنه لا يكون معلومًا المهمة الموكلة إليه، وفي الأغلب فإن فلسفته في العمل والتجربة التي يُقيّم عليها أحكامه تظل من الأمور الغائبة. الأمر الثاني أنه من الناحية العملية يصبح الرئيس معتمدًا في استشاراته على رئيس الوزراء والوزراء من خلفه، والذين هم في أغلب الأحوال يختفون خلف «توجيهات الرئيس» في لحظات النجاح، ويختفون كلية في لحظات الفشل. وعلى سبيل المثال فإننا منذ الثمانينيات من القرن الماضي ونحن في حالة فشل كامل في وضع قوانين للانتخابات يُمكن للمحكمة الدستورية العليا أن تقبلها، سواء كان الدستور لعام ١٩٧١، أو الإعلانات الدستورية التي تلت ثورة يناير، أو دستور ٢٠١٢، وأخيرًا دستور ٢٠١٤.

الأمر هنا لا يُنتج فقط قوانين محبطة للانتخابات، وإنما تكون القوانين عادة (سواء كانت للاستثمار، أو إدارة المحافظات، أو بناء الجامعات والمدارس، أو السياسات الصحية) محبطة هي الأخرى. وما إن ننتهي من قانون وإقراره حتى تبدأ عمليات تعديله، أو البحث عن طريقة لإلغائه. هنا فإن الرئيس الذي يجد نفسه وسط غابة من التشريعات وخلافات الأجهزة المختلفة حول السياسات والقوانين وعلاقاتها بالواقع؛ سيحاول قدر الإمكان التركيز على الإنجازات الملموسة المجسدة فيما هو معروف بالمشروعات القومية الكبرى. وهذه لا بأس بها لأنها تسد بعضًا من احتياجات البلاد، ولكنها لا تلهب طاقة الدولة، بحيث تصبح هذه المشروعات متناسبة من ناحية مع الاحتياجات العامة، ومن ناحية أخرى تعبئ موارد إضافية، بحيث ننتهي في نهاية المطاف إلى تحقيق التقدم العام للدولة الذي يتجاوز الزيادة السكانية، ويحقق عدالة التنمية بين أقاليم الدولة المختلفة.

الآلية الحالية لاتخاذ القرار في مصر، والقائمة على «رؤية الرئيس» والشعبية التي يتمتع بها، وقدرة مجلس الوزراء على إصدار التشريعات والقوانين اللازمة؛ لا تكفي لتحقيق التقدم المطلوب. هنا فإن مؤسسة الرئاسة إذا ما كانت قوية وفاعلة ومؤمنة بالفعل بالرؤية المطروحة؛ فإنها أولا تربط كل أجزائها في استراتيجية واضحة يمكن طرحها على الرأي العام في عبارات بسيطة، وأهداف محددة، وأدوات معلومة، وجداول زمنية مقررة. وهي التي في النهاية تقدم للرئيس البدائل، ليس فقط في السياسات، بل أيضًا للأفراد والقيادات في الوقت المناسب. إن إدارة مصر معقدة ومركبة، وتحتاج ما هو أكثر من سلامة النية وحب الوطن. وببساطة تحتاج إدارة مؤسسية تعطي الرئيس الوقود اللازم للنجاح.

وأخيرًا، فإنه لا مفرّ من الإقرار بأن ثمة أمورًا كثيرة قد تغيرت، حتى ولو بقي التحالف الشيطاني بين جماعة الطفولة اليسارية، والطفولة الليبرالية، والإخوان المسلمين لدينا، مع نظرائهم في الغرب، في دق الطبول المزعجة التي يساعدها -للأسف- تأخرنا في اتخاذ إجراءات إصلاحية هامة وعاجلة، وعجزنا عن إصدار قانون للانتخابات النيابية لا تعترض عليه المحكمة الدستورية العليا، وحديثنا المستمر في كل موضوع تقريبًا عما إذا كان ممكنًا إنجاز أمر ما وشهر رمضان وامتحانات الثانوية العامة على الأبواب. وبصراحة فإن ذلك يصنفنا ضمن الأمم التي لم تنضج بعد، ولا تأخذ البحث عن مكانة في الساحة العالمية بالجدية التي تستحقها.

د.عبدالمنعم سعيد

المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية