لم يعد الوضع الليبي عصيّا على الفهم. فمنذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011 والمجتمع الدولي يعرف أن التنظيمات التي تهيمن على الواقع الليبي هي جماعات وتنظيمات وميليشيات وأحزاب مصنفة دوليا ومحليا، بأنها إرهابية غوغائية معادية للديمقراطية ولسلطة القانون وللقيم والأصول والقوانين والشرعية الدولية، من أي نوع.
فعلى الأقل منذ سبتمبر من العام 2012، حين هبت العصابات السلفية المتطرفة فأحرقت القنصلية الأميركية في بنغازي، وتسببت بمقتل السفير الأميركي جي كريستوفر ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين، وأميركا وأوروبا تعتبران الجهات التي قادت الهيجان الشعبي للانتقام والرد على فيلم “براءة المسلمين” هي إرهابية لا تختلف عن داعش والقاعدة، بل إن داعش والقاعدة موجودتان بين “مجاهديها”، ومخابرات أعظم دولة في العالم تلاحق زعماءها وتخطط لإلقاء القبض عليهم، بأي ثمن وبأية وسيلة.
ومنذ الأيام الأولى لسقوط نظام القذافي بصواريخ أوروبا وأميركا وما يسمى بالمجلس العسكري الليبي بقيادة الإرهابي المعروف عبدالحكيم بلحاج يمارس كل أنواع الجرائم الإرهابية ضد كل من يطالب من الليبيين بحياة مدنية خالية من سلاح الميليشيات، وبالأمن وسلطة القانون.
وأميركا ودول أوروبا، قاطبة، تراقب نشاطه، وترصد علاقاته الحميمة مع تركيا، وهي العضو المهم في حلف الناتو، وتعرف جميع عمليات تهريبه الأموال المسروقة من ليبيا إلى تركيا، وانغماسه مع المخابرات التركية في دعم الحركات الإسلامية المتطرفة في مصر، خصوصا، وفي المنطقة العربية والعالم، ويبقى أمام أعينها يظل خارجا من ليبيا وعائدا إليها، وهو آمن ولا خوف عليه ولا هم يحزنون.
ومعروف أن ما دفع ببقايا الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر إلى أخذ المبادرة والتصدي للمسلحين الخارجين على القانون هو استنجاد الأسر الليبية بها لتخليصها من حكم العصابات، وقد فعل وحررها وجعلها أنموذجا لحكم الدولة وسلطة القانون.
ومن أول أيام تحركه لمقاتلة القاعدة وداعش والجماعات المتحالفة معها وهو يحث دول أوروبا وأميركا على دعمه والتخلي عن حكومة فايز السراج التي يعرف القاصي والداني بأنها رهينة الميليشيات، ولكن لا حياة لمن ينادي.
حتى وجد نفسه مسوقا إلى موسكو طلبا للسلاح والدعم السياسي، لعل ذاك يجعل “أصدقاءه” القدامى الأميركيين والأوروبيين يستفيقون ويؤيدون إنهاء الصراع الليبي واللجوء إلى الحل السياسي بعد تجريد الميليشيات من سلاحها المنفلت، ولكن دون جدوى.
ورغم أنها تعلم، علم اليقين، بانغماس الحكام القطريين الدائم والثابت في احتضان عصابات الإخوان المسلمين الليبية، وباقي الجماعات السلفية المسلحة، وبتَحالفهم الثابت والكامل، في جميع الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والعقائدية والإعلامية، مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتمويلهم لتدخله العسكري في ليبيا، فهي بقيت تلتزم الصمت، حتى وهي ترى حليفها التركي يرسل قوات عسكرية تركية، وجيوشا من المرتزقة السوريين من أجل حماية الميليشيات من سلطة الجيش الوطني الليبي، ولإطالة أمد الاقتتال، ولمنع الليبيين من الاتفاق وإحلال السلام.
وفي لقاء علني مع قناة “سي.أن.أن ترك”، قال أردوغان، إن “مهمة جنودنا هناك هي التنسيق أو إدارة العمليات. جنودُنا ينتشرون تدريجيا”. وتؤكد مصادر موثوقة، من داخل مطار مصراتة، أن جسرا جويا مقاما منذ يومين لطائرات الشحن التركية في خط متواصل، وهي تحمل الذخائر والأسلحة والمعدات من تركيا، في مشهد مثير للقلق، بعد أن تجاوز عدد المرتزقة الأتراك والسوريين 9000.
علما بأن المخابرات التركية هي من تتحكم في السراج، بعد أن كبلته
بعقود واتفاقيات، وسرقت مليارات الدولارات نقدا، وباعت له الأسلحة التركية التي هي خردة لمصنع الحديد والصلب.
ولكن الذي أثار الدول الأوروبية وأميركا، بعد كل الدم الذي سال في ليبيا وبعد كل الخراب، هو أن مدينة بني وليد، جنوب طرابلس، شهدت ظهور مئات من الجنود الروس، بكامل سلاحهم وعتادهم وبزاتهم العسكرية.
وهنا فقط ظهر أمين عام حلف شمال الأطلسي “ناتو” ينس ستولتنبرغ على أجهزة الإعلام ليعلن أن الحلف مستعد لدعم حكومة الوفاق الوطني.
ثم يصرح وزير خارجية إيطاليا، لويجي دي مايو، أمام البرلمان، بأن التدخل التركي في ليبيا أعاد التوازن، ومنَع مشكلة كبرى تطال استقرار البحر المتوسط، إن تُرك حفتر يدخل طرابلس.
وواشنطن هي الأخرى اعتبرت خليفة حفتر عنصر تهديد لأمن الأطلسي ودول جنوب أوروبا، وذلك لأنه أدخل الروس الذين وصفهم أحدُ قادة الجيش الأميركي في أوروبا بأنهم “أخطر من داعش”. ثم توالت التصريحات الأميركية عن قلق من تكرار سيناريوهات أوكرانيا وسوريا في ليبيا.
ونقل بيان لأفريكوم عن الجنرال في الجيش الأميركي ستيفن تاونسند، قائد القيادة الأميركية الأفريقية، قوله “من الواضح أن روسيا تحاول قلب الموازين لصالحها في ليبيا مثلما رأيتها تفعل في سوريا”.
وبدوره، قال الجنرال في سلاح الجو الأميركي جيف هاريجيان، قائد القوات الجوية الأميركية في القوات الجوية الأوروبية، “إذا استوْلت روسيا على قاعدة على الساحل الليبي، فإن الخطوة المنطقية التالية هي نشر قدرات دائمة بعيدة المدى لمنع الوصول إلى أفريقيا”.
أما الجماهير الليبية غير المسيّسة فموقفها مما يجري في ليبيا تلخصه رسالة من داخل ليبيا يقول فيها مرسلها “باختصار ماعندهاش موقف. فالليبي البسيط اليوم همه الوحيد أن يتركه القتلة وقطاع الطرق يعيش في سلام، وأن لا يتعرضوا له ولشرفه، قبل أي شيء آخر. فإن كان يسكن في بنغازي وما جاورها فهو يصفق لحفتر وعبدالفتاح السيسي ودول الخليج العربية، وإن كان من سكان طرابلس فهو يصفق للسراج وأردوغان ولأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. بعبارة أخرى، إن الليبي البسيط عايش حسب نطاق التغطية”.
إن المعارك الليبية اليوم أصبحت دولية، بامتياز، ولن تُحلّ حتى في عشر سنوات قادمة. ولكن، ورغم أن الوجود الروسي في بداياته، والوجود التركي لم يصل بعد إلى حالة الاحتلال
الدائم فإن حكومات أوروبا وأميركا الخائفة من جعل ليبيا سوريا ثانية، فلا يبدو أنها ستفعل شيئا جادا وعقلانيا وآدميا لإنهاء هذه الحرب الخاسرة، ولمنع الكارثة السورية من الحدوث.
العرب