فيلم “الامبرطور الأخير” للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي، شاهدته حراً في السينما، عقب مشاهدة فيلمه الآخر “1900” في التلفزيون الليبي والذي تدور أحداثه بسجن “بورتا بينتو” في طرابلس الغرب. دُهشت لما شاهدت الأول، فجاء الثاني مبهراً لكن فصيحاً. ففيه ترى الصين، من خلال عين الأمبراطور الأخير “بو يي” الذي غدا امبراطوراً في عام 1908، وكان عمره حينها سنتين فقط، بعدما اختارته الإمبراطورة سيزي ليخلفها. وعند تعيينه، كانت سلالة “مان جو” تحكم الصين منذ 250 سنة.
في الفيلم المليء بتفحص المشهدية الصينية، خصوصاً في المدينة الإمبراطورية المحرمة، ثمة مشهد استثنائي حين يكتشف المعلم البريطاني، أن الصبي الإمبراطور يعاني من قصر نظر فيجلب له نظارة. وكان البريطانيون عام 1919 تمكنوا من الوصول إلى الإمبراطور الطفل “بو يي”، داخل المدينة المحرمة، بوساطة ضابط من الكولينيالية البريطانية يدعى ريجنالد جونستون، تم تعيينه رسمياً كمعلم لغة إنجليزية لهذا الصبي مدة 13 سنة، لكنه كان في الوقت ذاته ضابط اتصال بين الأخير وبين الحكومة البريطانية. بالمصادفة كنت قبل، قرأتُ كتاباً، صدر عن دار “روز اليوسف” المصرية، هو عبارة عن ملخَص قام به الصحافي فتحي خليل، لمذكرات “الإمبراطور الأخير” التي صدرت بالصينية والإنجليزية.
وقبل وقوع الصين في قبضة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس (بريطانيا)، تعرضت بلاد السور العظيم المغلقة، بلاد طريق الحرير المفتوحة، لمحاولات عدة لإخضاعها. ولما عجزت بريطانيا عن فتحها، خاضت ضدها حرب الأفيون. وهكذا كان استعمارها بوسائل إنجليزية لا مثيل لها، إغراقها بالأفيون، فهذه الصين الأسطورة، كما تثير مخيلة الغرب، يحتاج اكتساحها معجزة. كذلك ستلهب ثورتها وتحريرها مخيلة الباحثين، كمثل ميسون البياتي الذي كتب “في عام 1911 وقعت الثورة الصينية، وتحولت الصين إلى جمهورية، وفي عام 1912 تم إجبار بو يي على التنازل عن العرش، مع السماح له بالبقاء في المدينة المحرمة (كان عمره وقتها ست سنوات)”.
كل الثورات التي وقعت في العالم، وحوّلت الأنظمة الملكية إلى جمهورية، كانت بمساعدة ومدّ من الولايات المتحدة، التي بدأت قوتها تتعاظم بعد الثورة الأميركية، وصارت خطراً على الأحلاف الإمبراطورية القديمة، خصوصاً على العلاقة المتينة، التي تربط البريطانيين بكل من ممالك الصين واليابان.
كان الصراع البريطاني الأميركي دائراً على ممالك الشرق ومناطق المحيط الهادئ النائية. وساعد الأميركيون تحول الصين إلى جمهورية، ليقلبوا شكل نظامها ويخرّبوا على البريطانيين كل العهود والمواثيق والتحالفات، التي وقعتها تلك البلاد معهم منذ مئات السنين.
ظلت الصين جبل ثلج، أي القوي في حالة كمون، “ياجوج وماجوج” المخيلة البشرية، فهي في كل حال كما قال ماو (تسي تونغ)، يمكنها أن تقيم جسراً في المحيط على جثث جزء من مواطنيها، كي يقوم الآخرون بغزو أميركا، في استعارة نابهة لما يفعله الجراد حين يجتاز البحار، فيقوم قطيع منه بتكوين محطات فضائية طائرة، لاستراحة القطيع الآخر، ليتمكن من اجتياز العائق الطبيعي.
لذلك جمهورية الصين الشعبية، منذ إعلانها في أول أكتوبر (تشرين الأول) 1949 شكلت خطراً محتملاً. روزفلت الرئيس الأميركي المنتصر في الحرب الكبرى الثانية، وواضع حجر أساس الأمم المتحدة، رأى تكون مجلس الأمن من الدول الكبرى: الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، المملكة المتحدة العظمى، دولة الصين الوطنية (تايوان)!، وفرنسا التي حررها الحلفاء من الاحتلال الألماني النازي، في حين رفض الاعتراف بالصين الشعبية واستُبعدت بالتالي من مجلس الأمن، لتدخل في عام 1964 النادي النووي.
الصين العنقاء التي تنهض من رمادها بعد الثورة والإطاحة بـ “الإمبراطور الأخير”، أصبحت الصين الماوية، روح الكونفوشوسية المتجددة، التي “تتقنع” بالماركسية، وما زالت الدولة الصينية كذلك حتى اليوم، رأسمالية يقودها حزب شيوعي!
في سبعينات القرن الـ 20، وهو العقد الذي انقلبت فيه الولايات المتحدة على سياستها السابقة تجاه الصين الشعبية، فمُنحت الأخيرة في عام 1971 كرسيها في مجلس الأمن، بعد طرد تايوان. وحدثت في هذا العقد (السبعينات) متغيرات جمة مست العالم وقيادته الغربية ورأسه الأميركي. وتأججت الحرب الباردة بين الدولتين الكبريين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كما تأجج الشقاق بين السوفيات والصين، آنذاك كان ماو 1968 ملهماً لشباب أوروبا المتمرد، خصوصاً في الرائدة فرنسا.
هذه الإضبارة التاريخية، تبيّن تفرّد الصين (البعير الأجرب)، وها هو تاج كورونا على رأس الصين، التي عاشت عقود ما بعد الاستقلال تحت الحصار، الذي شكّل مختبراً للعقل الصيني الحديث، لا سيما بعد تحرره من عقلية المؤسس (ماركسية ماو الكونفوشيوسية)، فبموت ماو تسي تونغ، تحرّر العقل الصيني من سجون الثورة الثقافية، محمَلاً بخبرات مخيبة للآمال، متشائمة العقل لكن متفائلة الإرادة.
أميركا مرة ثانية، دعمت العقل الصيني (التحرّري)، وتدفقت روؤس أموالها لأجل ذلك، قابلةً بقيادة الحزب “الشيوعي المَبنى”، “الرأسمالي المَعنى”. وتبدو هذه المفارقة هيكلية في البناء الصيني، الذي يتمظهر كبيت مغلق في الخارج منفتح في الداخل. لقد عادت الصين إلى طريق الحرير، الطريقة الصينية المحض، المتمهلة الدؤوبة، وفي عقود لمح البصر، غدت الصين النامية، الأميرة النائمة المستيقظة بقبلة الحبيب الأميركي.
أحمد الفيتوري
اندبندت عربي