لا يخفي الطابع الرمزيّ للدوريّات المشتركة التي تقوم بها دوريّات عسكريّة تركيّة ـ روسية على الطريق السريع إم 4 شمال سوريا الخلافات المستترة أو المعلنة بين أنقرة وموسكو، فهذه الفعاليّة المشتركة بين قوات الدولتين على الجغرافيا السورية تشبه خيط معاوية الذي لا يريد الطرفان أن ينقطع بينهما في الوقت الذي يواصلان فيه تحريك قطعهما العسكرية وقواتهما، مثل قطع شطرنج، ويتبادلان الخسائر والمغانم، في لعبة تشترك فيها رغبات السيطرة على الأرض والطرق البحرية والغاز والنفط والأيديولوجيات.
شهدت هذه العلاقة بين البلدين الكبيرين المتجاورين أشكالا كبيرة من الصعود والهبوط، لكنّ امتداد هذا الصراع إلى الجغرافيا الليبية، بحرا وبرا وجوا، أدى مزيدا من التشويق والإثارة وعناصر التوتّر والتلاعب، بحيث تداخل دورهما في الملفّين السوري والليبي، كما تزايد الترابط والتشبيكات بين الملفّين بشكل جديد يوضّح عناصر لم تكن سابقا واضحة للعيان.
أدّى هذا التدخّل المتصاعد لحكومتي البلدين في الوضع الليبي، إلى انعكاسات لاحقة على الوضع السوريّ، فتعرّض رتل عسكري تركيّ قبل أيام لتفجير فيما كان الطيران الروسي يحلّق، وتواصل تعزيز جيشي البلدين لقواتهما في إدلب فنشرت روسيا قناصين لمجموعة «فاغنر»، فيما عززت تركيا نقاط المراقبة ومواقع انتشارها ووجودها العسكري وأدخلت أسلحة جديدة نوعية، وكان واضحا ارتباط هذه التحرّكات بالهزائم الأخيرة التي تعرّض لها حليف روسيا في ليبيا، الجنرال خليفة حفتر، وترافق ذلك مع إهانة كبيرة للجيش الروسي بتدمير منظومات دفاع صاروخي من طراز «بانتسير» واحتفال قوات الحكومة الليبية بالسيطرة على بعضها.
استخدمت بعض وسائل الإعلام هذا التداخل بين الملفّين للحديث عن سيناريو سوري في ليبيا، وكذلك للتشهير بعمل موسكو وأنقرة على استئجار «يد عاملة» سوريّة في الصراع الليبي، غير أن هذا التطوّر الطارئ والمثير يتجاهل عمليا أن الملفّين كانا متداخلين منذ بداية الثورتين في البلدين، فقد أدت موافقة روسيا على قرار في مجلس الأمن بالتدخل الأممي في ليبيا تحت الفصل السابع، كما هو معلوم، إلى سقوط حليفها معمر القذافي، وهو ما دفعها إلى التشدّد لاحقا في الملف السوريّ واستخدام حق النقض في كل مرة للدفاع عن استمرار النظام السوري، قبل أن تتدخّل عسكريا وبشكل مباشر لحمايته، مذكرة الغرب دائما بأنها لا تريد تكرار «السيناريو الليبي» في سوريا، كما أعطى مقتل القذافي، بالطريقة القاسية التي جرى فيها، أسبابا لدكتاتور سوريا، بشار الأسد، للتمسك بالسلطة والتطرّف في قمع الحراك الشعبي ضده.
حاول الثوار الليبيون، بعد انتصار ثورتهم، دعم الثورة السورية بالسلاح، وحتى بصواريخ مضادة للطائرات، وقد تمت مصادرة هذه الأسلحة حينها، بطلب من الأمريكيين، وبتعاون مع الجيش التركي، الذي كانت بعض قياداته حينها، قريبة للأمريكيين، وحاولت لاحقا، الانقلاب على الحكومة المدنية.
لا تتورع الخارجية الروسية، في ظل هذه الإحداثيات كلها، عن التحدث عن ضرورة «الحل السلمي» في ليبيا، وإدانة «التدخل الخارجي»، في الوقت الذي تزيد فيه عدد مقاتلاتها، التي تصل إلى ليبيا عبر سوريا، في حين يقوم الأتراك، بالتمسك بالخيط الذي يمنعهم من الصراع المفتوح مع روسيا، حيث سمحوا بانسحاب 1600 من جنود «فاغنر» من جنوب طرابلس إلى بني وليد ثم قاعدة الجفرة، في حين كان ممكنا أن يتعرضوا لمجزرة كبيرة.
لا يتعلّق تداخل الملفين إذن بالصراع التركي ـ الروسيّ فحسب، وهو سابق على وجود تركيا في سوريا وليبيا، ويبدأ مع بداية الثورات ومآلاتها، ولعلّ من سخرية القدر أن تتشابه هذه المآلات، رغم سقوط القذافي في ليبيا واستمرار الأسد في سوريا، حيث عادت «القذافية» في شخص حفتر لتهدد ليبيا مجددا، وتحوّلت «الأسدية» إلى تابع ذليل يُملي عليه الكرملين ورئيسه طلباتهم بوضع اليد على المواقع وزيادة النفوذ البحري وتسديد الفواتير المتراكمة.
القدس العربي