أعلن محمود عباس في 17 أيار باسم “القيادة الفلسطينية” بأن السلطة الفلسطينية “في حِل من كل الاتفاقات والتفاهمات والالتزامات النابعة عنها، بما في ذلك الالتزامات الأمنية” بينها وبين حكومتي إسرائيل والولايات المتحدة، وأضاف بأن على “سلطات الاحتلال أن تتحمل من الآن فصاعداً المسؤولية… أمام الأسرة الدولية كقوة احتلال على أراضي دولة فلسطين”. وتحمل الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي على هذه القوة. كما أن البيان يحمل الولايات المتحدة المسؤولية عن الوضع الناشئ بسبب “شراكتها” مع خطوات إسرائيل، ويدعو دول العالم للاعتراف بدولة فلسطين والوقوف ضد الضم ومعاقبة إسرائيل، ويكرر القول إن م.ت.ف هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني وليس أحد غيرها. وتضمن البيان إيضاح بأن السلطة متمسكة بالقرارات الدولية والإقليمية وبحل الدولتين، مستعدة لإجراء مفاوضات برعاية دولية واسعة وكرر الالتزام بالعمل ضد الإهاب الدولي مهما كان.
جاء البيان بعد أسابيع عديدة انطلق في أثنائها في الساحة الفلسطينية انتقاد شديد للسلطة الفلسطينية على ضعفها وهشاشتها وعدم قدرتها و/أو شجاعتها لتحقيق القرارات التي اتخذتها في السنوات الأخيرة بشأن وقف العلاقات مع إسرائيل. هذه الأصوات، التي انطلق بعضها في قاعة المداولات أيضاً قبل تلاوة البيان، تترافق وتعابير الهزء والاستخفاف، وتبث عدم ثقة باستعداد عباس والقيادة حوله للخروج من المكان المريح الذي منحته إياهم الاتفاقات مع إسرائيل. إن محاولة عباس جلب أجنحة المعارضة للمشاركة في الاجتماع الذي صدر فيه البيان اصطدم برفض قادة حماس والجهاد الإسلامي الذين عارضوا المشاركة في قرارات ليس لهم قدرة على التأثير فيها وطالبوا بوضع استراتيجية كفاح مشترك. زياد نخالة، أمين عام الجهاد الإسلامي، أوضح في مقابلة مع قناة “الميادين” بأن منظمته لن توافق على أن تكون زينة في مثل هذه الاجتماعات.
على مدى السنين، أجاد عباس في التصدي لمثل هذا الانتقاد، ولكن ما حركه هذه المرة لإطلاق بيانه الحاد كانت الأمور التي قيلت في كنيست إسرائيل في أثناء أداء الحكومة الجديدة اليمين القانونية في 17 أيار. فقد عاد رئيس وزراء إسرائيل وأعلن بأن في نيته بسط السيادة على مناطق في الضفة الغربية (وإن كان الضم لم يدرج في الخطوط الأساسية للحمة). وبالفعل، فإن بعضاً من منطقة الراحة التي خلقها الإجراء الانتقالي لأوسلو للسلطة الفلسطينية كان الامتناع الإسرائيلي عن إعطاء مفعول رسمي لسيطرة دولة إسرائيل في الضفة الغربية، وبخاصة في مناطق المستوطنات وغور الأردن. أما هذه المرة، حين تعلن حكومة إسرائيل على الملأ بأن في نيتها بسط السيادة على أجزاء من الضفة الغربية، في ظل الاستناد إلى الإذن بعمل ذلك مثلما جاء في خطة ترامب، فلم يتبقَ لعباس إلا الخروج في إعلان تهديد، في محاولة لعدم فقدان الصلة، سواء في الساحة الداخلية أم الدولية. في نظر عباس وقيادة م.ت.ف، الذين أحدثوا التغيير عام 1988 في تحديد الأهداف الوطنية الفلسطينية من دولة بدل إسرائيل إلى دولة إلى جانب إسرائيل – لا معنى لحجم الضم. بالنسبة لهم، تعتزم إسرائيل تغيير قواعد اللعب من خلال خطوات من طرف واحد، مآلها التأثير على طبيعة التسوية الدائمة وتعميق ضعف الفلسطينيين. وثمة مصدر قلق آخر تراه السلطة الفلسطينية، وهو أن التقدم باتجاه الضم سيمنح مفعولاً أكبر لاستراتيجية الكفاح المباشر التي تتبناها حماس والساعية إلى الاعتراف بها كبديل عن السلطة الفلسطينية.
عملياً، ليس واضحاً ماذا سيكون مفعول وحجم تصريحات عباس العلنية. فقد اعتقد صائب عريقات بأن القرارات دخلت حيز التنفيذ الفوري، بما في ذلك وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل والولايات المتحدة. ولكنه قال للصحافيين الإسرائيليين، إن هذا ليس ضوءاً أخضر لتنفيذ العمليات ضد إسرائيل، وإن محاولات كهذه ستصطدم بالمقاومة من جانب قوات الأمن الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، أفادت محافل الأمن الفلسطينية للصحافيين الإسرائيليين بأنها أوقفت اللقاءات المشتركة وتفعيل الخط الأحمر بين القيادات على المستويات الميدانية، كما أخرج القوات الفلسطينية من المناطق “ب”، حيث تتواجد بالتنسيق مع إسرائيل، وإن كان هذا لا يعني حالياً حل أو نية حل أجهزة الأمن في السلطة الفلسطينية أو ترك الحكومة والوزراء الفلسطينيين لمناصبهم. وذلك بخلاف الدعوات التي وجهها كُتّاب رأي فلسطينيون كفاحيون للقيادة للانتقال إلى الجزائر أو الإعلان عن حل السلطة وتسليم المسؤوليات عن المناطق “أ” لإسرائيل، مع إبقاء م.ت.ف ممثلاً وحيداً للفلسطينيين.
ومع ذلك، يبدو أن الرد الفلسطيني على إعلان نية الضم في هذا الوقت ينطوي على احتمال تحقق أعلى من التهديدات بإلغاء الاتفاقات وقطع العلاقة مع إسرائيل، والتي أطلقها الناطقون باسم السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. ومع أن السلطة “لم تحطم الأواني” وتسعى لترك مجال عمل للساحة الإقليمية والدولية حتى الأول من تموز على الأقل، وهو الموعد المقرر لبدء حكومة إسرائيل العمل على الخطوة، فالحديث يدور عن تحذير من الآثار السلبية المتوقعة للضم، على أمل حمل إسرائيل على التوقف عنه. وقد نتعرف على الامتناع عن التراجع التام عن الاتفاقات من أن عباس شدد أيضاً على أن كلمته موجهة لحكومتي إسرائيل والولايات المتحدة، وليس للاتحاد الأوروبي الذي يوقع هو أيضاً على الاتفاقات التي تبلورت على مدى السنين. وكذا من الصيغة المعتدلة للبيان التي جاء فيها أن السلطة الفلسطينية “ترى نفسها في حِل” من الاتفاقات وليست منسحبة منها. فالتمسك بهذه الاتفاقات هو الأساس الذي تقوم عليه الاستراتيجية التي تميز بين م.ت.ف/السلطة الفلسطينية من جهة وحماس من أخرى. وربما تفسر ضعضعتها في الساحة الفلسطينية دليلاً آخر على فشل السلطة وربما أيضاً التقدم في مسيرة مصالحة داخلية بين فتح وحماس، التي لا تزال احتمالات تحققها هزيلة.
من ناحية إسرائيل، ينبغي الفحص فيما إذا كانت نية الضم تعبر بالفعل عن مصلحة قومية وحولها إجماع، إجماع فيه ما يحسن الواقع الأمني في ساحة النزاع بعامة وفي المجال المخصص للضم بخاصة، أم ربما يعمق الخلافات والشروخ القائمة في المجتمع الإسرائيلي رغم التأييد لهذه النية في أجزاء من الجمهور. فالضم الذي على جدول الأعمال لم يرفع إلى جهاز الأمن كمهمة تفترض دراسة معمقة ولم يجرَ حوله بحث جماهيري كما هو جدير بخطوات سياسية وأمنية ثقيلة الوزن. كذاك الذي جرى قبل فك الارتباط عن قطاع غزة. فما بالك أن الحديث لا يدور عن سياق تهديد أمني يحدق بالمستوطنات أو بحرية عمل الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية من جانب السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية. فهل من الصواب وضع محمود عباس قيد الاختبار، واستعداد أجهزة الأمن الفلسطينية للخضوع لإمرته، أو وضعه ووضع أجهزته الأمنية أمام سخرية أبناء شعبه.
أمر الساعة هو التقليل من الحماسة التي تتميز بها التصريحات في إسرائيل بشأن نية الضم، والبحث باهتمام شديد في جملة الآثار المتوقعة للخطوة في ساحة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وكذا في الساحة الإقليمية. لقد أوضح عبد الله، ملك الأردن، ورئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز، بأن الضم قد يخلق مواجهة بين الأردن وإسرائيل. كما أن مصر هي الأخرى تتحفز في ضوء إمكانية أن تطلب حماس وفصائل فلسطينية أخرى، من خلال استئناف النار في القطاع رداً على الضم، أن تثبت لأبو مازن ما هو “الطريق الصحيح” لممارسة الضغط على إسرائيل. لهذا السبب، وكذا لسبب أن عموم الجهات ذات الصلة بالنزاع الإسرائيلي–الفلسطيني ومنها الإدارة الأمريكية، غير معنية بانهيار أو حل السلطة الفلسطينية، بالتصعيد في ساحة النزاع، وبتفاقم العلاقات بين إسرائيل وجيرانها في الشرق الأوسط، وبسحب مفعول المسيرة السياسية، ينبغي تغذية الدراسة اللازمة في إسرائيل في هذا السياق بالمعطيات والتقديرات التي تساهم في بحث عاقل. كما ينبغي تشجيع بحث جماهيري في هذا الموضوع الذي ستكون معانيه الأمنية والاجتماعية، سواء في المدى القصير أم الطويل، ثقيلة الوزن.
بقلم: يوحنان تسورف
القدس العربي