من حيث منطوق الحيثيات ونطاق التطبيق، يختلف “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” عن كثير من أنساق العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، سواء بقرار من البيت الأبيض أو بتشريع من الكونغرس، على العديد من الأنظمة؛ في الشرق الأوسط بصفة خاصة، ولكن أيضاً على قوى عظمى مثل روسيا على سبيل المثال. ذلك لأنه يستكمل، في المقام الأوّل أغلب الظن، سلسلة سياسات استهداف إيران عبر أذرعها في المنطقة؛ وهذه خيارات اعتمدتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ البدء، وصادق عليها بقوّة صقور الحزب الجمهوري في الكونغرس. كما يتابع القانون، على نحو أو آخر، تلك “الفلسفة” التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ولم ينقضها تماماً خَلَفه ترامب، حول دفع الكرملين إلى مزيد من الغرق في أوحال “المستنقع السوري”.
في عبارة أخرى، صحيح أنّ القانون يسمّي سوريا البلد، ويعلن حماية “المدنيين السوريين” على وجه التحديد، إلا أنّ النظام السوري ليس سوى الباحة الخلفية التي تتصدرها ستراتيجيات واشنطن ضدّ باحتَيْ طهران وموسكو في قلب المعادلة السورية؛ التي لا تنفصل، إلا عند السذّج، عن باحات لبنان والعراق، وربما اليمن وليبيا استطراداً. وصحيح، من جهة ثانية، أنّ الضغط على النظام عبر بوّابة الاقتصاد هو العنوان الإجرائي المعلَن للقانون، مثل غالبية العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هنا وهناك؛ إلا أنّ اقتصاد النظام، في حالته الراهنة، لا يتطلب المزيد من التركيع لأنه راكع أصلاً وشبه منهار، خاصة في الآونة الأخيرة حين فقدت العملة الوطنية نحو 70 في المئة من قيمتها أمام غالبية العملات الصعبة.
وأمّا من حيث مقادير الأذى التي يُلحقها القانون بالشعب السوري ذاته، أو بالأحرى “المدنيين” الذين يزعم حمايتهم، فإنّ “قانون قيصر” لا يختلف كثيراً عن أيّ طراز من العقوبات التي تٌفرض للضغط على الأنظمة؛ فتؤذي ــ بالدرجات الأولى والثانية والعاشرة ــ الشعوب ذاتها، قبل إيذاء رؤوس الأنظمة ومجرمي الحرب ومؤسساتهم الأمنية والعسكرية. وفي مثال الشعب السوري تحديداً، وربما أكثر من الشعب الإيراني اليوم، أو الشعب العراقي في زمن صدّام حسين؛ ثمة في “قانون قيصر” ابتداع لطرائق جديدة من حشر المواطن السوري بين مطرقة نظام الاستبداد والفساد والتبعية للخارج وأهوال احتلالات متعددة الأطراف والجبهات، وسندان الغلاء وجنون الأسعار والبطالة القصوى وعطالة الاقتصاد وانهيار العملة وانسداد سُبُل العيش الأبسط…
ولا يُدهش المرء إزاء تصريحات جيمس جيفري، مبعوث الإدارة الأمريكية الخاصّ إلى سوريا، من أنّ انهيار الليرة السورية “يثبت أنّ روسيا وإيران لم تعودا قادرتين على تعويم نظام الأسد”؛ متناسياً أنّ وكالات الأمم المتحدة ذاتها، بعلم الولايات المتحدة والسادة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، مكّنت النظام السوري من التنعّم بما قيمته 30 مليار دولار من “المساعدات الإنسانية”؛ وتلك كانت واحدة من أكثر عمليات القرصنة الدولية وضوحاً وانكشافاً و… صفاقة! تلك المليارات لم تقدّم رغيف الخبز أو علبة الدواء للمواطن السوري، بل ضخّت المزيد من الملايين في جيوب رؤوس النظام وفاسديه وصيارفته، وأمدّت أجهزته الأمنية والعسكرية بأكثر من شريان حياة.
وفي نهاية المطاف، ألا يتواصل تعويم نظام الأسد منذ بدء الانتفاضة الشعبية السورية، في ربيع 2011؛ ليس من جانب إيران وروسيا وحدهما، بل كذلك في أكثر من عاصمة على نطاق العالم، في واشنطن كما في تل أبيب، وفي الرياض أسوة بالقاهرة؟ وأيّ نظام ذاك الذي أسقطته العقوبات الاقتصادية، أممية كانت أم أمريكية، و”ذكية” قاسية كانت أم “غبية” متسامحة؟ ألم يحدث العكس في الواقع، إذْ أتقنت الأنظمة المعاقَبة استغلال تلك العقوبات من أجل فساد أكثر واستبداد أشدّ، فضلاً عن انتهاج نفاق أعلى وقاحة في ادعاء دور الضحية؟
صبحي حديدي
القدس العربي