أعادت هتافات المتظاهرين في محافظة السويداء خلال الأيام المتواصلة الماضية إحياء الذاكرة المرعبة لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، حيث أيقظت في داخله من جديد مخاوفه من السقوط السريع، كما كان حاله مع بداية الحراك السلمي الشعبي في درعا، والتحاق المحافظات السورية بذلك الحراك، ما جعله يسارع في تحويل الثورة إلى صراع مسلح ينتزع منها التعاطف الدولي، ويحوّلها إلى مجرد ملفٍّ على طاولة المفاوضات الدولية، ولكنه اليوم يعود إلى نقطة البداية مع ثورةٍ شعبية بما أنجزته من شعاراتٍ سياسيةٍ مرفوعةٍ في ساحات التظاهر، وإبداعات غنائية وطنية جامعة، وطرق بصرية وتعبيرية جديدة لمواجهته مباشرة ورفض حكم الأسد الأب والابن معاً، وبما يجعلها منيعةً على تزوير محتواها، كما فعل مراسلون من المحسوبين على أجهزة الأمن لمحطات تلفزيونية محلية ودولية، أن “المظاهرات هي تنديد بقانون قيصر والعقوبات الأميركية”.
وفي الآن نفسه، أعادت الثورة المتجدّدة في السويداء الثقة إلى السوريين بأن مفاتيح الحل لا تزال وطنية، على الرغم من كل التلاعبات الدولية، وهيمنة الحرب الشرسة على واقع السوريين، وتمزّق كيانات المعارضة بين أجندات الدول والارتهان لمصالحها، وإحلال مصالح تبادل السلطة مع النظام مكان شعارات الثورة بتغيير النظام وبناء دولة المواطنة المتساوية التي عبرت عنها هتافات 2011 “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، وتلاقت معها هتافات 2020 في السويداء ودرعا وإدلب ودير الزور وأنحاء عديدة من سورية، ما أفشل خطط الطائفية والمناطقية التي انتهجها النظام على مدار السنوات التسع الماضية، وجرّدها من مضمونها الذي اعتمد في تعامله مع المحافظات والطوائف السورية السياسة الإسرائيلية في
“روسيا عينت نفسها وكيلاً عن النظام أمام المجتمع الدولي، واستبقته بتعيين مبعوث خاص للرئيس بوتين في دمشق”الأراضي المحتلة “فرّق تسد”.
ودعت صرخات الثورة المتجدّدة، في التوقيت ذاته، حلفاء النظام إلى إعادة ترتيب جدول أولوياتهم، ووضعت روسيا على وجه التحديد في مأزق تصريحاتها المتكرّرة بشأن دعمها سورية الدولة، وليس شخص الأسد وعائلته، ما يسمح من جديد للثورة السورية بأن تستعيد أحقيتها في طرح مشروعها الوطني، وبناء دولةٍ سوريةٍ على أسس ديمقراطية تتيح لكل السوريين فرص المشاركة بالتساوي في مواطنتهم، ووقف هدر مواردهم ومحاسبة الطبقة الفاسدة سياسياً واقتصادياً وجنائياً، وهو ما يفرض على روسيا البحث عن حلولٍ بعيداً عن سلاحها الجوي المساند للنظام منذ عام 2015، والتوجّه إلى مشاركة المجتمع الدولي سيناريو حل جديد يوقف الغضب الشعبي، ويمهد لانتزاع سورية من تفرد عائلة الأسد بحكمها.
يمكن لقانون قيصر (وهو نسبة إلى ضابط سوري منشق قدّم الصور التوثيقية لجرائم النظام ضد المعتقلين أمام الكونغرس الأميركي)، والعقوبات التي يفرضها على النظام وأزلامه والمتعاونين معه، أن يمثل نقطة انعطافة في مواقف مساندي النظام، لكنه في مضمونه هو بداية انطلاقة الحل السياسي الذي يجب أن تنتهجه روسيا الدولة التي عينت نفسها وكيلا عن النظام أمام المجتمع الدولي، واستبقته بتعيين ما سمته مبعوثاً خاصاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دمشق، يتولى مهمة سد الفراغ القراراتي، وتوحيد قرار النظام داخلياً بشأن التسوية السياسية، وهو ما يفسّر اللقاءات والاتصالات الأميركية – الروسية التي تجري لصياغة “مقاربة تدريجية”، أي تسوية سياسية تعيد سورية إلى المجتمع الدولي، حسب تصريحات وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تبدأ نقطة الصفر فيها من انطلاق أعمال اللجنة الدستورية
“هدف إقالة عماد خميس، وتعيين حسين عرنوس تخفيف الضغط الشعبي، وتحميل المظاهرات صفة المطلبية”المشتركة (معارضة – نظام) في جنيف، مرورا بتسوياتٍ جزئيةٍ في درعا وإدلب. وبناء عليها، تمت أيضاً معالجة واقع هيئة التفاوض في الرياض بحلول ترقيعية لخلافاتها.
وبينما يستمر النظام في سياسة الإنكار التي اتبعها منذ تسعة أعوام، فإن واقع تدهور الليرة السورية فرض عليه إجراءات داخلية، منها إقالة رئيس الحكومة عماد خميس، وتعيين حسين عرنوس (المعاقب أميركياً) بديلا منه، في محاولةٍ لتخفيف الضغط الشعبي، وتحميل المظاهرات صفة المطلبية، بدلاً من الصفة السياسية التي تجلت بوضوح في هتافاتها الأيام الماضية. وعلى أهمية ما يحمله التغيير للسوريين، إلا أنه لن ينتج أي حلول في واقعٍ يزداد سوءاً، حيث يحتاج وقف التدهور السعري لليرة إلى تمتين الاقتصاد في حالاتٍ طبيعية، وهو ما يمكن أن يعالج بالالتفات إلى محاربة الفساد، وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، ووقف هدر المال العام، وتمكين الصناعيين من أدوات عملهم، ومنها النقد الأجنبي والمحلي. ولكن هذه المطالبات تكون، في غضون حربٍ عسكرية وثورة سياسية ضد النظام الفاسد من داخله، مع أهمية تحقيقها، “فائض سطحية” ليس أكثر.
وما يستطيع فعله عرنوس في رئاسته الحكومة السورية وبقية التعيينات لشخصيات معاقبة دولياً (من الولايات المتحدة وأوروبا، لارتكابها أو الاشتباه بضلوعها في جرائم حرب) توجيه رسالة إلى مؤيدي النظام، وتحديداً لمريدي ابن خال الرئيس الأسد، رامي مخلوف، أن النظام حريصٌ على مؤيديه وشركائه الداخليين، خلافاً لما حاول مخلوف، في تسجيلاته وبياناته المكتوبة، أن يوحي به: في بدء النظام التخلي عن المقرّبين منه، اصطفافاً مع زوجته أسماء الأخرس، في صراعها على السلطة المالية والاقتصادية التي كانت تديرها عائلة مخلوف بالنيابة عن الأسد، من خلال شركات الاتصالات والشركات القابضة، وحتى الخدمية الاجتماعية، كما يدّعي.
سابقاً طالبت الإدارة الأميركية النظام وروسيا باتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لتحقيق التسوية الدولية بشأن سورية، متجاهلة أي قوة للسوريين في الحل، لأنها ترى النظام من نافذة روسيا، وترى الثورة من واقع ترامي الاتهامات بين كيانات المعارضة المنقسمة والمتهالكة والمتراكضة على
“أميركا ترى النظام من نافذة روسيا، وترى الثورة من واقع المعارضة المنقسمة والمتهالكة والمتراكضة على تقاسم السلطة” تقاسم السلطة، إلا أن ما حدث في السويداء ودرعا وإدلب وأماكن متفرّقة من مظاهرات، بعد طول قمع النظام لها، وشدّته عليها في السنوات الماضية، كان هو القرار الصعب الشعبي الحقيقي، الذي من شأنه أن يغير من معادلات التفاوض: من تسويةٍ بين أطراف مسلحة متحاربة، إلى حل سياسي يفرض سورية جديدة شكلاً ونظاماً.
ومع كل هتاف يعيد الثورة السلمية إلى ساحات مدن سورية وأحيائها، يستعيد السوريون ليس فقط قدرتهم على تحقيق أهداف ثورتهم في حريتهم وحفظ كرامتهم من التشرّد والجوع والموت تحت أنقاض بيوتهم، بل تمكّنهم من حياكة ما تمزّق من وحدتهم الوطنية التي عملت كل أطراف النزاع المسلح المأجور (نظاماً ومعارضة) على الإمعان في تفجير خلافاتها على قاعدة تحقيق التباعد الطائفي والمناطقي والإيديولوجي بين السوريين.
يُزهر ربيع سورية اليوم في السويداء، على الرغم من كل ما يقوله الأسد، وإجراءاته التي تبقى قفزاً في المكان، ما لم يقرأ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 بعناية، ويسقط فلسفته على قانون قيصر ومضامينه، ويتوقف عن شرح المشروح في خطاباته.
سميرة المسالمة
العربي الجديد