أشار رئيس الحكومة اللبنانية، في رسالة وجهها إلى مواطنيه، عن «انقلاب» أسقطته الحكومة، وفشل «خطة الإطاحة بورشة اكتشاف الفساد»، واعدا اللبنانيين بالإعلان عما يراه مناسبا من «المعطيات» التي كشفتها حكومته، في «الوقت المناسب».
مرّت بلبنان مجموعة من الأحداث الكبرى المعبّرة عن اختلالات الصيغة التي نشأ عليها، كما تعكس علاقات هذه الصيغة الحادة مع محيطها الجغرافي، حيث تحيطها سوريا من ثلاثة حدود، فيما يواجهها الكيان الإسرائيلي من الجنوب، وقد عبّرت اختلالات لبنان عن نفسها عبر أزمات سياسية خطيرة، من أهمها أحداث عام 1958 التي وضعته في أتون الصراع الناصري الأمريكي، وصولا إلى انفجارها الكبير عبر حرب أهلية التي امتدّت منذ عام 1975 حتى 1989 مع إعلان اتفاق الطائف، مرورا بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982، واغتيال رفيق حريري عام 2005، والعدوان الإسرائيلي عام 2006.
لم تصل هذه الأزمات، رغم تهديدها للوجود والصيغة اللبنانيين، إلى حالة «الانقلاب»، باستثناء محاولتين فاشلتين قام بهما الحزب السوري القومي الاجتماعي للانقلاب عام 1949 و1961، إضافة إلى «الانقلاب» الذي قام به العميد عزيز الأحدب قائد المنطقة العسكرية في بيروت عام 1976، حيث ظهر على شاشة التلفزيون الرسمي واضعا مسدسا على الطاولة، وأدت حركته الفاشلة إلى تفكك الجيش اللبناني إلى عدة أطراف متقاتلة نتذكر منها تجمعا قاده العقيد أنطوان لحد، الذي أصبح لاحقا قائد «جيش لبنان الجنوبي» ومديرا لجيب إسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية.
فتح انطلاق الحراك الشعبي في تشرين الأول/أكتوبر 2019 صفحة جديدة لا يمكن اعتبارها «انقلابا» على الصيغة اللبنانية لكنّها تحمل تباشير اختلاف سياسيّ جذريّ عن كل ما سبق، وتقدّم، نظريا على الأقل، حلولا للأزمات الوجودية اللبنانية المستعصية، التي تشكّل الحكومة اللبنانية الشكل السياسيّ لمأزقها، فهي، كما هو معلوم، تمثّل القوى السياسية التي راكمت هذه الأزمة، بتحويلها لبنان إلى كيان مفرغ من معناه، تسيطر على مفاتيحه الكبرى، دولتان، تعانيان بدورهما من أزمات كبرى تكاد تطيح بنظاميهما السياسي: الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تتكفل بتمويل وتسليح «حزب الله»، والنظام السوري، المتحالف أيضا مع هذا الحزب، وقوى سياسية أخرى تقدّم التغطية للحكومة.
أقرّت الحكومة اللبنانية قبل أيام جملة تعيينات في مناصب رفيعة المستوى في الإدارة العامة وفي مصرف لبنان المركزي، وجرت التعيينات، كما هي العادة، تقاسما للحصص الطائفية والحزبية بين مكونات ائتلاف الحكومة الحاكم، ولم تقم الحكومة اعتبارا للانهيار الاقتصادي الكبير الذي يعيشه مواطنوها، والذي دفع بنصف السكان تقريبا إلى البطالة، وحين نزل اللبنانيون للاحتجاج، ووجهوا بقوات الجيش، وكذلك بجمهور الحزب الذي دفع مئات من أنصاره لمواجهة المتظاهرين، ولتحويل الحدث إلى نزاع طائفيّ.
لا تحتاج الأزمة اللبنانية الهائلة لمبالغات، ومن المؤكد أن ليس هناك في الأفق جنرال يضع مسدسا على الطاولة ويظهر على التلفزيون لإعلان انقلابه، ولكن كرسيّ رئيس الوزراء اللبناني المهتزّ، وحسّه الفكاهي، دفعاه، على ما يظهر، إلى الحديث عن «انقلاب» فيما يتعلّق الأمر، كما شرح هو نفسه بـ«ضخ الأكاذيب والشائعات»، وهذه الأكاذيب والشائعات، حسب رأيه، هي التي تسببت في «تعميق أزمة الليرة اللبنانية» ودفعت «الناس إلى الشارع».
لا يتعلّق الأمر إذن بإدارة دياب للحكومة في مواجهة الحراك، ولا بالتحكم في قرارها السياسي من قبل قوى خارجية متهالكة اقتصاديا، ولا بقانون قيصر الأمريكي الذي ضرب الليرتين السورية واللبنانية، ولا بقيام الأوساط السياسية التي نصبته، بتهريب المازوت إلى سوريا الذي أدى لخسارة الحكومة اللبنانية التي يرأسها 239 مليون دولار منذ بداية عام 2020 فقط، ولا بانحسار الدعم الماليّ للحزب مما جعله مضطرا إلى سحب الدولارات وتهريبها إلى سوريا لدعم النظام هناك، ولا باستنكاف صندوق النقد الدوليّ عن تقديم الملاءة الماليّة لحكومة مفلسة وفاشلة.
القدس العربي