لا جدال في أن مشروع رئيس الوزراء العراقي الإصلاحي حظي بتأييد شعبي واسع يستحقّه، وأجبر حتى الكتل السياسية المتضرّرة منه على إعلان تأييدها له، خوفاً من أن يؤدي رفضها إلى انحسار، وربما انهيار، شعبيّتها، لا سيّما وقد جاء الإصلاح بعد دعوة المرجعية الشيعية إليه. وبهذه القرارات خرج العبادي من دائرة الظل التي قبع فيها كثر من المسؤولين في النظم التسلّطية، حتى حانت فرصهم فأثبتوا أنهم ليسوا شخوصاً ثانويين في المشهد السياسي. هكذا كانت حال أنور السادات وحسني مبارك وعشرات القادة في الاتحاد السوفياتي السابق وغيره، ممّن بدوا شخصيات خانعة حتّى غاب الزعيم الذي كانوا يستظلّون به.
يستحق العبادي التحية على أخذه زمام المبادرة حين أوشكت «ميليشيات عصائب أهل الحق» المقرّبة من الحرس الثوري الإيراني والمالكي، على اختراق التظاهرات الشعبية بإعلانها تشكيل «الحشد الشعبي المدني». لكن توقيت ضربة العبادي وسرعتها يكادان يتطابقان مع تجارب لا حصر لها مهّدت لصعود الزعيم «المستبدّ العادل» عبر التاريخ الحديث. وظروف العراق وتاريخه قابلة لأن ينزلق بموجبها العبادي في هذا الفخ، بوصفه الزعيم الذي تضع غالبية الشعب آمالها في يديه، وتعلّق مصيرها عليه بعد أن قرفت من المؤسسات التي أُريد لها أن تؤسس لنظام ديموقراطي.
لكن أمام العبادي الكثير، الكثير من التحدّيات التي عليه مواجهتها للظفر بتلك الجائزة.
فالتظاهرات التي أشعل شرارتها انهيار منظومة الكهرباء في صيف استثنائي الحرارة حتى بمقاييس العراق، بعد أن أُنفق عليها 32 مليار دولار منذ سقوط صدام، سرعان ما ارتقت في سخطها ليفرّغ الناس حقداً مُختزناً على الأحزاب والبرلمان والدستور والقضاء والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة.
لم يرفع المتظاهرون حتى اللحظة الأخيرة صور العبادي، ولم يهتفوا باسمه إلاّ بعد أن أصدر قراراته. فقد نظروا إليه قبلها كرجل ضعيف على رغم إخلاصه. كانوا يطالبون باستقالة وزراء ومحاسبة مسؤولين. كانوا يأملون بالضغط على الطبقة السياسية الحاكمة نفسها حتى تستجيب لمطالبهم، لكنهم لم يتوقعوا ظهور المنقذ لا من داخل تلك المؤسسة فحسب، لا بل لم يتوقعوه من قمّتها. ولأنهم لم يروا في تلك المؤسسة أملاً في تقديم الحلول، كان أكثر المطالب جذرية يدعو إلى إجراء انتخابات مبكّرة لعلّ طاقماً سياسياً أكثر نزاهة وإخلاصاً يحلّ محلّ من تولّوا الحكم منذ أكثر من عقد. كان المنقذ الوحيد الذي وضعوا أملاً في إسناده لهم هو المجتهد الشيعي الأعلى علي السيستاني.
أما وقد ضرب العبادي ضربته، فقد أخذت الصورة بالتغيّر. فلم يعد كثر من المتظاهرين يهاجمون تركيبة البرلمان وأداءه، وهو برلمان جاؤوا به بأصواتهم، بل صاروا يطالبون بإلغاء مؤسسة البرلمان. ولم يعودوا يهاجمون أحزاباً فاسدة، بل صاروا يطالبون بحلّ الأحزاب. ولم يعودوا يطالبون بإحالة الفاسدين إلى القضاء، بل أصدروا بأنفسهم حكم الإعدام في حقّهم. ولم يقتصر حقدهم المشروع على رجال السياسة، فقد مزّقوا صور رئيس مجلس القضاء الذي لعب أدواراً مشينة في إيجاد الحجج القانونية لشرعنة الفساد وتسلّط المالكي.
ولم يفوّت العبادي الفرصة. بعد يوم واحد من تصويت البرلمان بالإجماع على قراراته، بدا أنه يشاركهم همومهم وسخطهم، مشيراً إلى عدم رضاه عن أداء البرلمان، ومذكّراً إياهم بأنه جاء عبر تصويت الأخير له. ولم يشر إلى أن حلّ تلك المؤسسة يعني العودة إلى ديكتاتورية لم تجلب للعراقيين غير الدمار والبؤس والطغيان. ومرّت جملة واحدة في شكل عابر في نشرات أخبار القنوات العراقية: «أتمنّى أن أحصل على تفويض بتعديل الدستور»، تعليقاً على استياء الناس من دستور المحاصصة وتأييداً لهم في استيائهم.
لا يتعلّق الأمر بحسن نوايا العبادي وإخلاصه، بل في الظرف الذي جعل جمهرة واسعة تحلم بحلول سريعة لأزماتها المتصاعدة، وبمعالجات سحرية لفساد أتاح نهب عشرات مليارات الدولارات من أموال بلدها وحرمها أبسط مقومات الحياة الكريمة. ومثل هذه الجمهرة لا تمتلك ترف انتظار مناقشات برلمانية وتسويات بين كتل سياسية. وذلك هو الظرف الذهبي لصعود الشعبوية.
كان نوري المالكي يدرك أن الناس تبحث عن هذا «المستبد العادل»، وكان شبح عبدالكريم قاسم أول المستبدّين العادلين والنزيهين الذي لا يزال يتمتّع بهالة أسطورية، ماثلاً أمام عينيه (كما كتبت في مقال سابق). رجل تحسّ الجمهرة أنه واحد منها لكنه يقف فوقها. فرد يواجه قوى الشر بمفرده مثل بطل ملحمي. لكن المالكي نجح في أن يكون مستبدّاً، وكان أبعد ما يكون من العدل والنزاهة.
أكاد أجزم أن العبادي يتطلّع، في تمنّيه تعديل الدستور، إلى تغيير النظام البرلماني القائم إلى نظام رئاسي. ولعلّه يفكّر، وهو مصيب، في الملايين التي ستسير في تظاهرات غاضبة وراءه إن وقف البرلمانيون في وجهه.
لكن أمام الرجل تحدّيات كبرى، أقلّها العثور على حجر الفلاسفة السحري الذي يمكّنه من توزيع مقاعد حكومة الوزراء الخمسة عشر المقترحة، على زعماء لم تُشبع جوعهم إلى الحكم مقاعد الحكومة الحالية ذات الواحد والثلاثين وزيراً. ما هي حصّة السنّة وقد أُزيح، من دون دافع طائفي في رأيي، قطبان سنّيان بإلغاء مناصب نوّاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء؟ وكيف سيضع موضع التطبيق تلك العبارة العامة التي ردّدها كل المسؤولين: اعتماد مبدأ النزاهة والكفاءة في التعيين في المناصب الحكومية وإلغاء نظام المحاصصة الحزبية، من دون أن يثير غضب كتلة «دولة القانون» التي ينتمي إليها، والتي تحتل اليوم اثني عشر مقعداً وزارياً، ويشغل أكثر من أربعين من أعضائها مناصب وكلاء وزير، فضلاً عن المناصب المماثلة التي تشغلها الكتل الشيعية الأخرى المتحالفة مع كتلته؟
أما في التحدّي الأكبر، فلن تستطيع القرارات ولا أصوات البرلمانيين وحدها مساعدة العبادي في مواجهته، وهو احتلال «داعش» أكثر من ثلث العراق واعتماده الكبير على قوات «الحشد الشعبي»، الموالية في معظم فصائلها لنوري المالكي وإيران، للمساهمة في تحريره. صمت إيران وهادي العامري، زعيم أكبر ميليشيات الحشد، عن التعليق على قرارات العبادي يشي بالكثير وهو ما يدركه الأخير، إذ سارع في الاستفادة من الحماس الشعبي للمطالبة بأن تكون قوات الحشد، مثلها مثل القوات المسلّحة النظامية، بعيدة من الشأن السياسي. وأشكّ في أن السيد العامري سيأخذ بتلك النصيحة وهو الحالم بأن يكون هو، لا العبادي، ذلك المستبدّ المنتَظر. تدخّل السيستاني لردع «عصائب أهل الحق» عن اختراق التظاهرات. ولكن من يعرف المفاجأة المقبلة؟
في مصر ذات المؤسسات الأكثر ثباتاً، نجح السيسي في كسب شعبية هائلة، إذ تقدّم إلى الواجهة بعد أن قرف المصريون من فوضى الحكم البرلماني الذي جاء بالإخوان إلى الحكم (ودفع بالجيش الى حماية المتظاهرين كما فعل العبادي). وأخطار الانزلاق إلى عصر الاستبداد العادل أسهل في عراق خرج من نظام يعلن رئيسه من على شاشات التلفزيون: «شنو القانون؟ سطر أو سطران أضع تحتها توقيع صدّام حسين»، ليدخل عصر نظام إقطاعيات سياسية فاسد اقترن اسمه بالديموقراطية.
الحياة