تركيا والصراع على السلطة في الشرق الأوسط

تركيا والصراع على السلطة في الشرق الأوسط

إذا سارت الأمور حسب الخطة، فإن تركيا ستدعو إلى إجراء انتخابات جديدة هذا الأسبوع، فاتحة الطريق أمام الحزب الحاكم لبذل محاولة أخرى من أجل الحصول على سلطة صاحب الأغلبية. وسوف تأتي هذه الخطوة، التي توقعها المسؤولون على نطاق واسع، بعد شهرين من الانتخابات الأخيرة التي خسر فيها حزب رجب طيب أردوغان، حزب العدالة والتنمية، الكثير من بريقه وهالته. وفي الوطن، أصبح الأكراد تحت أنظار أردوغان الحذرة، بعد أن كسب حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد أكثر من 10 % من الأصوات الوطنية في الانتخابات الأخيرة، عابراً بذلك العتبة التي جعلته قوة مهمة في السياسة المحلية، ومصدر إزعاج كبيرا للزعيم التركي، على حد سواء. وفي الأماكن الأخرى من المنطقة، كانت النتيجة أكثر عمقاً من ذلك أيضاً.
في غضون شهر واحد، أعادت تركيا فتح الجبهة مع الحركة الانفصالية الكردية، حزب العمال الكردستاني، الذي كانت هدنة معه قد صمدت لأكثر من سنتين. كما تدعو تركيا الولايات المتحدة أيضاً إلى استخدام واحدة من قواعدها الجوية لشن هجمات على مجموعة الدولة الإسلامية الإرهابية “داعش” عبر الحدود في سورية -وهي خطوة كانت تركيا قد رفضتها سابقاً، على الرغم من مناشدات حليفتها المستمرة على مدار نحو سنتين.
في الوقت نفسه، شرعت القاذفات التركية في قصف مواقع حزب العمال الكردساني في كردستان العراقية، وكذلك الميليشيات الكردية السورية، وحدات حماية الشعب، التي اضطلعت -تحت غطاء الطائرات الأميركية- بجزء كبير من القتال البري ضد مجموعة “داعش”. والأنكى من ذلك كله هو أن تركيا أعلنت اعتبار الأكراد خطراً أكبر حتى من تهديد “داعش” نفسه، والذي تشكل فظائعه وحركته التخريبية عبر مركز العالم العربي الآن تهديداً كبيراً بلا شك للاستقرار الإقليمي، بل وتحدياً كبيراً للنظام العالمي بأكمله.
عند كل منعطف، يصبح الشرق الأوسط الآن أكثر اشتعالاً من أي وقت في القرن الماضي، حيث يستمر “داعش” في تقويض السلطة في كل من العراق وسورية بشكل خاص، وكل نظام الدولة ما بعد العثماني بشكل عام. ومع ذلك، وبالنسبة لأنقرة، تبقى نقطة الصفر لتفكيك المنطقة هي جبالها الجنوبية الشرقية، حيث يستخدم الأكراد التخريبيون الفوضى الراهنة من أجل تحقيق أهدافهم الخاصة.
يؤكد إلقاء نظرة سريعة على الطرف الذي يحتفظ الآن بالأرض في داخل سورية أسوأ مخاوف تركيا. فهناك، تسيطر وحدات حماية الشعب الكردية، التي كانت إلى جانب قوات البشمرغة التابعة لكردستان العراق، هما القوة الوحيدة المقاتلة الموثوقة ضد “داعش”، على مساحة من الأرض الواقعة إلى جنوب الحدود التركية، والتي تمتد من الحدود العراقية إلى الحافة الشمالية الشرقية من حلب.
كما أن لدى الميليشيا الكردية معقل آخر في شمال غرب سورية. وهذه الفجوة الواقعة بين المكانين هي المنطقة التي تصر تركيا الآن على تأسيس منطقة حظر للطيران فيها. وقد تم تسويق هذه الخطوة على أنها تهدف إلى إقامة ملاذ آمن للمدنيين والمقاتلين السوريين. لكن الواقع هو أنها سوف تمنع الميليشيات الكردية من الوصل بين منطقتيها، بالإضافة إلى تغيير الجغرافيا السياسية للحدود، من وجهة نظر أنقرة.
أما أين يترك ذلك التحالف مع الولايات المتحدة التي لا تستطيع من دون الأكراد خوض حرب ضد “داعش”، فهي واحدة من الأحجيات الكثيرة التي يطرحها هذا الوقت العصيب في الإقليم. وفي الوقت الحاضر، قبلت واشنطن العرض التركي باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، لكنها لا توافق على إنشاء منطقة حظر للطيران، بينما تحث تركيا -بنجاح محدود فقط- على وقف الهجمات ضد المصالح الكردية المختلفة.
في العراق، تستمر الولايات المتحدة وايران في الرقص والمراوغة، متظاهرتين بأنهما لا تتعاونان في القتال ضد “داعش”، في حين تطير المقاتلات الأميركية من أجل دعم الميليشيات المدعومة إيرانياً.
وفي الأماكن الأخرى، ظهرت عجائب جديدة أيضاً. ففي وقت سابق من هذا الشهر، طار مسؤولون روس إلى الرياض من أجل إجراء مناقشات مع وزير الدفاع السعودي، محمد بن سلمان. كما ذكرت الكثير من  التقارير أن رئيس المخابرات السوري، علي مملوك، كان على متن الطائرة نفسها، في إشارة إلى أن السعوديين لم يرفضوا ذلك، وهي خطوة كانت بعيدة حتى عن مجرد التصور في السنوات الثلاث الماضية التي مزقت الحرب فيها سورية.
أضف إلى ذلك زيارة متبادلة قام بها السعوديون إلى موسكو؛ وإرسال وفد إيراني إلى سلطنة عمان؛ والصفقة النووية المدعومة أميركياً مع إيران؛ والدعم الروسي لمحكمة تابعة للأمم المتحدة تقوم بالتحقيق في هجوم بالأسلحة الكيميائية قرب دمشق قبل سنتين، والذي كانت المسؤولية عنه قد نسبت على نطاق واسع إلى نظام الأسد. ودبلوماسياً، كانت هناك تحركات في الشهر الماضي أكثر من أي وقت مضى خلال السنوات الخمس الأخيرة.
لا يعني هذا أن نهاية واحدة من أكبر المآسي في التاريخ الحديث أصبحت تلوح في الأفق. إن سورية تشتعل، وسوف تستمر معاناة مواطنيها من النازحين والمحرومين لسنوات عديدة مقبلة. ومن الصعب رؤية الكيفية التي ستستطيع بها أي سلطة مركزية استعادة السيطرة على البلد. ويمكن قول الشيء نفسه عن العراق بشكل متزايد.
ما يزال السعي الذي لا يكل، والذي يبذله أصحاب الحصص في المنطقة من أجل النفوذ، يستمر في إشعال جذوة الحرب السورية بشكل خاص. وما تزال الأرضية المشتركة بطيئة في الظهور بين أصحاب المصالح الخاصة المتخندقة. ومع ذلك، ولأول مرة منذ بداية الأزمة، ثمة الآن بعض الإشارات على أن اللاعبين البارزين كافة -إيران، والعربية السعودية، والولايات المتحدة وتركيا- أصبحوا يدركون الآن أن ملاحقة الأجندات المتباينة سوف لن يفضي إلى أي مكان في نهاية المطاف، سوى الدمار المتبادل المؤكد.
يمكن أن يُقرأ التنازل الروسي المفاجئ في الأمم المتحدة ظاهرياً على أنه إخطار للأسد بأنها بعد أن حمته من قرارات مجلس الأمن الدولي باستخدام حق النقض “الفيتو” لفترة طويلة، فإن روسيا يمكن أن تسحب عنه الغطاء في مسألة التحقيق في الأسلحة الكيميائية، وهي خطوة يمكن أن تشل ما قد يكون تبقى من سلطته.
لقد أصرت تركيا، والعربية السعودية وقطر جميعاً على أن زوال الأسد يمكن أن يعطيهم المساحة للتحرك، كما يمكن أيضاً أن يضعف زخم “داعش”. وتشير الرسائل التي ترسلها روسيا في الأسابيع الأخيرة إلى أن هذا الموضوع متروك للنقاش، طالما كان بوسع الروس تأمين مصالحهم الخاصة.
مع ذلك، يبدو الآن أن مكمن انشغال تركيا الأهم ليس الأسد، ولا “داعش” أيضاً. ويأمل أردوغان في أن يؤدي عقد انتخابات جديدة، بعد أسابيع من قتال الأكراد، إلى كسب الدعم من القوميين المنجذبين إلى السرد المناهض للإرهاب، وإلى إحداث صدع في حزب الشعوب الديمقراطي. وعند ذلك فقط، مع استعادة الأغلبية، سيستطيع أردوغان أن يحول انتباهه إلى اتخاذ إجراءات ربما حدد مستقبل المنطقة نفسها. لكن الخطر يكمن في أن يصبح الزعيم التركي الزئبقي على نحو متزايد تحت إغواء السعي إلى تحقيق مصالحه السياسية الخاصة والمصالح الوطنية لبلده، على حساب البحث عن تسوية إقليمية أوسع إطاراً، والتي يمكن أن تجلب السلام أخيراً إلى المنطقة.

ترجمة

علاء الدين أبو زينة

الغد الاردني