بدأت السلطات التركية التنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط قبل حوالي عام، وجرت العملية بالشراكة مع جمهورية شمال قبرص التركية. وفي ذلك الوقت، صدرت عدة ردود فعل معارضة للخطوة من الاتحاد الأوروبي وقبرص اليونانية واليونان ومصر وإسرائيل. وبدت العملية التركية نوعا من الاستفزاز للأطراف الأربعة التي كانت قد اتفقت على تشكيل تجمّع للغاز، من بين أهدافه محاصرة تركيا. وعلى الرغم من أن عمليات التنقيب التركية في هذه المنطقة التي اعتبرتها رمادية، لم تسفر عن نتائج، فإن أنقرة بقيت تحتفظ بسفينتين للتنقيب، وعزّزتهما بقطع بحرية أخرى خاصة بالتنقيب والحماية، ولم تتراجع عن قرارها على الرغم من الضغوط، بل تقدمت خطوة أخرى حين وقعت في نوفمبر/ تشرين الثاني اتفاقا حول ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، واعتبرت كل من قبرص واليونان ومصر وفرنسا هذا الاتفاق، كاتفاق تعاون عسكري بين طرابلس وتركيا، “باطلا ولاغيا”.
ردّت تركيا في حينه، على لسان وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، بأن أبلغت الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحتى اليونان “إنه ما كان ينبغي على القبارصة اليونانيين (جمهورية قبرص) القيام بأي نشاط من جانب واحد، عندما يتعلق الأمر بالحفر أو الاستغلال في شرق المتوسط، قبل التوصل إلى اتفاقٍ بشأن التوزيع العادل للإيرادات مع القبارصة الأتراك”، معتبراً أن موقف أنقرة “جرى تجاهله”، وأن اتفاق تركيا مع حكومة الوفاق لا يتعارض مع القانون الدولي، كون حكومة فايز السراج هي الحكومة الليبية الشرعية التي تعترف بها الأمم المتحدة. وبناءً على اتفاق ترسيم الحدود البحرية، ومذكرة التفاهم الأمني والعسكري، بدأت تركيا دعم طرابلس عسكريا. ومن هنا أخذ ميزان القوى بين قوات الوفاق وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر منحىً آخر، نحو التوازن. وكان الهدف الأساسي تأمين العاصمة طرابلس، المحاصرة والواقعة تحت نيران حفتر منذ إبريل/ نيسان 2019 .
ونجح الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق في طرد قوات حفتر من مدن الساحل الغربي، وتأمين العاصمة، وتحقيق تقدّم كبير بعد السيطرة على قاعدة الوطية ومدينة ترهونة والوصول حتى تخوم مدينة سرت التي سبق لقوات الوفاق أن حرّرتها من “داعش” عام 2016، وتوقفت المعارك في الأيام الأخيرة عند حدود سرت بسبب تدخلٍ روسي لدى أنقرة. وتحاول روسيا أن تتوصل إلى تفاهم مع تركيا من أجل حفظ مصالحها في هذا البلد، بعد أن بات الدور التركي، بين عشيةٍ وضحاها، مؤثرا وحاسما في تقرير مستقبل ليبيا. وتبدو قراءة ذلك من خلال ردود الفعل الإقليمية والدولية، وخصوصا فرنسا التي ندّدت بأي “تدخل خارجي مستمر في ليبيا”، خاصّة بالذكر الدور التركي الذي قالت إنه “غير مقبول ولا بد أن ينتهي”. وقال بيان الخارجية الفرنسية إن حكومة الوفاق الليبية تواصل الهجوم بدعم تركي “هائل” على الرغم من الموافقة على بحث وقف إطلاق النار، وذهبت فرنسا إلى رفع القضية إلى حلف شمال الأطلسي الذي من المقرّر أن يجتمع قريبا للفصل في دور تركيا في ليبيا. ولكن اللافت أن فرنسا، وكل الأطراف المؤثرة والداعمة لحفتر، باتت تدعو وتضغط من أجل هدنة والعودة إلى طاولة المفاوضات، وهو ما لم يكن واردا قبل أن تقلب تركيا ميزان القوى.
ومهما تكن الضغوط عليها، فإن أنقرة تجاوزت مرحلة هامة في تثبيت حليفها الليبي، وصارت موجودة بقوة عسكريا هناك، كما هو الحال في شمال سورية وشرقها، حيث حققت اختراقا كبيرا منذ الخريف الماضي، تمثل في طرد القوات الكردية من مناطق في ريفي الرقة والحسكة (نبع السلام) وإدخال قوة عسكرية إلى محافظة ادلب تتجاوز عشرة آلاف جندي يشكلون ميزان قوى جديدا داخل سورية.
بشير البكر
اندبندت عربي