التباين في وجهات النظر بين موسكو وطهران حول مستقبل الأزمة السورية قائم، لكنه لم يصل إلى حد التباعد، فالتوافق حول المصالح المشتركة في سوريا مستمر في الأمدين المنظور والمتوسط، ويمكن إرجاعه إلى غياب مشروع حل دولي وإقليمي جدي، ينهي الصراع السوري، ويتحمل الجزء الأكبر في هذه المعضلة التعاطي السلبي لإدارة البيت الأبيض مع هذا الصراع، ويعود سببه إلى تفريط الرئيس الأميركي بارك أوباما في موقع واشنطن ودورها في السياسة العالمية. هذا التفريط قابله إفراط إيراني روسي بتدخلهما في مناطق مختلفة من العالم خصوصًا الشرق الأوسط، واعتقادهما أنهما يستطيعان ملء الفراغ الناجم عن غياب واشنطن في عدة ملفات حساسة. فالانسجام الروسي الإيراني الحاصل حاليًا في سوريا ليس نهائيًا، وسيهتز عندما يضطر الطرفان للفصل بين مصالحهما، حيث سيحتفظ كل طرف لنفسه بما يملك من أوراق القوة، منفصلاً عن الآخر.
حتى اللحظة تستمر موسكو في استخدام أدواتها الدبلوماسية لمنع الفرقاء الدوليين والإقليميين من استثنائها من أي مشروع حل لا يلحظ حماية مصالحها، على الرغم من تعطيلها لمسار «جنيف 1» بسبب تمسكها بقراءتها الخاصة لمقرراته المتعلقة بمستقبل الأسد، في حين تتقاطع مواقفها مع أغلب مواقف اللاعبين الدوليين والإقليميين المجمعين على خيار الحل السلمي للأزمة، وضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، مع ضرورة إجراء تغييرات في التركيبة الأمنية، إلا أن إطالة أمد النزاع أدت إلى تحطيم بنية مؤسسات الدولة السورية خصوصا الجيش المنهك، وتقلصت قدراته ونفوذه لصالح ميليشيات أجنبية، تخضع للمنطق الطائفي، إضافة إلى حالة الترهل والتفكك التي تصيب كل مرافق الدولة والنظام، وهذا ما بات ينعكس سلبًا على موقع الكرملين في المعادلة السورية، القائم على التمسك بسوريا الموحدة وبحكومة مركزية قوية في دمشق، باعتبار أن هذه المعادلة ضمان وحيد لوجوده الأخير في الجغرافيا السياسية لشرق المتوسط وسواحله.
في المقابل، تعاملت طهران بوضوح كامل مع الأزمة السورية، حيث قررت خوض معركة الحفاظ على ما تبقى من منظومة الحكم، وقامت بربط مصالحها كاملة بهذه المنظومة، وهي تدفع الآن ثمن الكلفة العالية لحمايتها، وعلى الرغم من كل ما تعرضت إليه هذه المنظومة من ضعف وإنهاك ترفض طهران التخلي عن شخص الأسد، وهي تعي أن القبول بهذا التخلي هو بداية لمسلسل تنازلات، لن يكون بمقدورها رفضها أو منعها، فالأسد رأس الهرم الذي تدير من خلاله ما تبقى من الدولة، وهو رمز لمعركة الدفاع التي تخوضها عما تسميه سوريا الممانعة، وهي فعليًا معركة إبقاء سيطرتها الجيوسياسية على سوريا، التي تمكنها من القبض على القرار السياسي لبغداد وبيروت، وتضعها في تماس مباشر مع الحدود الإسرائيلية والأردنية، كما أن الاحتفاظ بصلابة المنظومة الأمنية هو الاحتفاظ بسطوة النظام وحلفائه في المنطقة، وحماية لظهر حليفها الأقوى حزب الله الذي سيتأثر مباشرة بأي تحول في بنية النظام مهما كان حجمها.
وبانتظار تحديد موعد الحسم المؤجل في سوريا فإن طهران تراهن على أن موسكو ليست بوارد مساومة المجتمع الدولي على سوريا، مقابل استعادة موقعها في أوكرانيا، وتعي جيدًا أن الكرملين لن يقبل بأن يخرج خاسرًا في كلتا الأزمتين (الأوكرانية والسورية)، لكنها تراهن على واشنطن في الإبقاء على حصتها من التركة السورية، بينما تنظر موسكو بعين الريبة إلى التقارب الإيراني الأميركي الجاري تحت غطاء الاتفاق النووي،
والذي سيفسح المجال أمام الطرفين للبحث في عدة قضايا عالقة في مقدمتها سوريا، وفي حال تم التوافق بينهما على حلحلة في الملفات إقليمية فستجد موسكو نفسها وحيدة في سوريا، مما سيدفعها للبحث عن حصتها عند فرقاء آخرين كانت قد دعمت طهران والأسد بوجههم، لكن معضلة الطرفين «الإيراني والروسي» الأكثر تعقيدًا أن واشنطن باراك أوباما ليست بالموقع الذي يمكنها أن تحقق لهما طموحاتهما التوسعية، ولا يمكن لها أيضًا انتزاع اعتراف إقليمي ودولي بما يعتبرانه حقًا لهما، فعلى ما يبدو أن الحل أمامهما هو الحفاظ على التوافق الظاهري بينهما، حتى تحدد واشنطن كيفية تعاطيها مع طهران بعد الاتفاق النووي، ويتضح موقف المجتمع الدولي أكثر في أوكرانيا، واقتناع الرياض بخفض إنتاج «أوبك»، لكن القلق من أن تبقى الأمور معلقة بانتظار المقيم الجديد في البيت الأبيض.
مصطفى فحص
صحيفة الشرق الأوسط