ما زالت أصداء قرار انسحاب شركة “أرامكو” السعودية من شراكتها مع “برتامينا” الإندونيسية تتردد في الأوساط السياسية والاقتصادية في إندونيسيا منذ أيام.
آخر هذه الأصداء ما قاله الوزير الإندونيسي للشركات الحكومية إيريك طاهر من أنه كان من اللازم حسم أمر الشراكة، مشيرا إلى أنها لم تحرز تقدما ملموسا، في وقت دعت فيه شركة “برتامينا” للبحث عن شركاء آخرين.
وكانت أرامكو أبلغت برتامينا بانسحابها من الشراكة لتطوير وتوسعة مصفاة “تشيلاتشاب” للنفط والبتروكيميائيات في الجنوب الأوسط لجزيرة جاوا، بقيمة قدرت آنذاك بنحو 6 مليارات دولار.
وإنهاء الشراكة هذه يعني تراجع السعودية استثماريا بين الدول المستثمرة في إندونيسيا إلى المرتبة 42، إذ ظلت استثماراتها دون 6 ملايين دولار سنويا خلال الأعوام الأخيرة.
وحسب تصريحات سابقة لوزارة المالية الإندونيسية، فقد كان هذا أهم مشروع استثماري للسعودية في السوق الإندونيسية خلال هذا العقد من الزمن، مقارنة بأي مشروع أو اتفاقية وقعت غداة زيارة ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز لإندونيسيا في مارس/آذار 2017، والتي علق عليها الإندونيسيون -السياسيون منهم والإعلاميون والاقتصاديون- في حينه آمالا كبيرة.
لكن وبعد ثلاث سنوات من هذه الزيارة، لم ينجز الكثير مما قيل آنذاك -حسب محللين إندونيسيين- باستثناء زيادة طفيفة في حجم التبادل التجاري الذي قدر في العام الماضي بـ4.6 مليارات دولار.
كان التواصل بين الشركتين أرامكو وبرتامينا قد بدأ منذ العام 2014، قبل أن يتم التوقيع على عقد الشراكة يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2016، على أن يبدأ تنفيذ المشروع مطلع العام المقبل، وذلك بهدف رفع الطاقة الإنتاجية للمصفاة من 348 ألف برميل يوميا إلى ما يقارب 400 ألف برميل.
وبنيت مصفاة “تشيلاتشاب” لأول مرة عام 1974، بينما استلزم اليوم تحديثها وتنويع أصناف ما تنتجه إلى جانب البتروكيميائيات.
وكان المشروع إستراتيجيا بالنسبة لإندونيسيا التي تستورد حاليا نحو 800 ألف برميل يوميا من مجموع 1.4 مليون برميل يستهلك محليا، وقد تم تضمينه في خطة ثُبّتت في قرار رئاسي صدر عام 2018 لتطوير عدد من المشاريع الإستراتيجية، ومنها بناء أو تطوير وتوسعة إنتاج 6 مصافٍ قدرت قيمتها وقتها بنحو 36.27 مليار دولار، بهدف وقف استيراد المحروقات مع حلول العام 2026. وكل هذه المصافي مجالات للاستثمارات العربية والأجنبية.
وإلى جانب “تشيلاتشاب” هناك مصفاة “بالونغان” عند السواحل الشمالية لجزيرة جاوا الغربية التي أنجز منها 10% فقط، ومصفاتا “بونتانغ” و”باليكبابان” شرقي ولاية كاليمنتان، وهذه الأخيرة أنجز منها نحو 15%، في حين يتوقع الوصول إلى 40% مع نهاية العام الجاري.
أما مصفاة “بونتانغ” فقد أعلنت شركة برتامينا مطلع الشهر الجاري تأجيل تنفيذها. ويضاف إلى تلك المصافي مصفاة “بلاجوط في سومطرا الجنوبية، وربما تكون ضمن القائمة مصفاة “دوماي” في رياو، ومصفاة “توبان” في جاوا الشرقية.
الاختلاف في تقييم الأصول
وفي أول تصريح صحفي لها الثلاثاء الماضي عن الأسباب التي أدت إلى إنهاء الشراكة مع أرامكو، قالت شركة برتامينا على لسان المديرة العامة للشركة نيكيه ويدياواتي إن إنهاء الشراكة في نظرها لن يؤثر على تنفيذ المشاريع التي تسعى لتحقيقها، بل عبرت عن قلقها من أن الاستمرار في هذه الشراكة كان سيؤدي إلى خسارة بالنسبة للدولة، بسبب انخفاض القيمة التي قدرتها شركة أرامكو للانطلاق في هذا المشروع.
وأضافت ويدياواتي أن أرامكو خفضت من تقييمها للأصول الحالية في مصفاة “تشيلاتشاب” لأكثر من مليار دولار، مشيرة إلى أنه كان من الأفضل إنهاء الشراكة.
وتابعت أن المشروع لو نفذ مستقبلا بشراكة مع إحدى الأطراف الأجنبية الراغبة في الاستثمار بدلا من أرامكو، فسيكون متكاملا مع مشروع للبتروكيميائيات تساهم فيه شركة “سي بي سي” التايوانية.
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد وكيل وزارة البحار والاستثمار الإندونيسية لشؤون سيادة الطاقة بوربايا يودها ساديوا أن الخلاف انصب على تقييم الأصول التي كانت ستستخدم في هذه الشراكة، مشيرا إلى أنه رغم اللجوء إلى هيئة تقييم ثالثة فإن ذلك لم يحل الخلاف، وهذا ما عرقل إنجاز الشراكة أو المضي فيها.
من جهته، قال فهمي راضي خبير اقتصاد الطاقة في جامعة “غاجه ماده” في جوغجاكرتا وسط جزيرة جاوا، إن نقطة الخلاف هي تقييم الأصول التي ستكون أساسا لهذه الشراكة.
وأضاف أن الشراكة بين الطرفين قديمة، وأن أرامكو طلبت في البداية محفزات مالية من الحكومة الإندونيسية، رُفضت ابتداء ثم وافقت عليها وزارة المالية، ومنها إعفاءات ضريبية، وهذا يعني أن مطالب أرامكو تمت الاستجابة لها، مشيرا إلى أن التفاوض دام طويلا.
وتابع الخبير الاقتصادي أنه حسب تقديرات برتامينا فإن قيمة الشراكة تبلغ 5.6 مليارات دولار، لكن أرامكو قدمت تقييما منخفضا جدا وأقل بنحو 50% وهو 2.8 مليار دولارا، لذلك لم يتم الاتفاق. ولفت إلى أنه رغم تغيير برتامينا بعض تفاصيل عرضها فإن أرامكو لم تقبل العرض الجديد وقررت إنهاء الشراكة.
عوامل أخرى تخص أرامكو
يرى المحلل في مجموعة “بور غروب آسيا” والمتخصص في مجال الطاقة والمناجم أحمد شريف شيخ أبو بكر أن هناك معطيات أخرى لعبت دورا في عدم تحقيق الشراكة بين أرامكو وبرتامينا، مشيرا في تصريحات صحفية لشبكة “سي إن بي سي” الإندونيسية إلى أن تراجع أسعار النفط جعل المستثمرين في هذه الظروف يراجعون حساباتهم بشأن الاستثمارات في المصافي.
وقال إن “أرامكو تواجه إشكالات داخلية، إلى جانب تراجع أسعار النفط الذي أثر عليهم، ثم تقلب الموقف بشأن عرض أسهم أرامكو للاكتتاب، وهناك توتر جيوسياسي إقليمي وغير ذلك”، مشيرا إلى أن إندونيسيا تظل جاذبة للاستثمار في مجال الطاقة، لكن الوقت غير مناسب بالنظر إلى تلك الأسباب.
مافيا النفط والغاز
إلى جانب ذلك، عاد مسمى “مافيا النفط والغاز” إلى الظهور مرة أخرى ضمن ما نشر لتفسير انتهاء هذه الشراكة، فقد قال وكيل وزارة البحار والاستثمار الإندونيسي “لو نظرنا إلى المشهد ككل فإنه منذ تولي الرئيس جوكوي الحكم عام 2014، وضع هدف تطوير 5 مصاف، لكن ذلك لم ينجز إلى يومنا هذا”.
وكان الرئيس الإندونيسي قد أكد على ضرورة التعجيل بتوسعة وتطوير مصافي النفط التي لم ينجز منها جديد منذ 30 عاما، أي منذ العقد الأخير لعهد الرئيس الأسبق محمد سوهارتو.
بل إن جوكوي -حسب مصادر إعلامية- عبّر عن غضبه في اجتماع تشاوري للخطة التنموية الخمسية (2020-2024) يوم 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، واعتبر أن ما أمر به من البدء بتطوير وإنشاء مصاف جديدة منذ نحو 5 سنوات لم ينفذ بعد، مشيرا إلى أن عدم إنجاز هذه المشاريع يصب في صالح أطراف تريد أن تظل إندونيسيا مستوردة للنفط ومشتقاته. وقال إنه طالب الأجهزة القضائية من شرطة وادعاء وهيئة مكافحة الفساد بأن يحققوا في هذا الأمر.
هنا يقول فهمي راضي إنه كان عضوا في فريق لمكافحة مافيا النفط والغاز برئاسة الاقتصادي الإندونيسي المعروف فيصل بصري، وإنهم أنجزوا دراسة معمقة وتوصلوا إلى أن هذه المافيا تستفيد من مجال استيراد المحروقات، وتسعى بشكل منظم لأن يظل الاستيراد مرتفعا ويزيد كل عام، وتعمل على عرقلة إنجاز أو توسعة مصافي النفط، ولهذا ومنذ 20 عاما لم يتحقق هذا الهدف، حسب قوله.
ويضيف خبير اقتصاد الطاقة في جامعة “غاجه ماده” أنه رغم توجيه الرئيس جوكوي جهات التحقيق المختصة إلى ملاحقة مافيا النفط والغاز فإن ذلك الأمر لم يحسم، كما لم يتم إنجاز بناء المصافي ليستمر استيراد النفط.
ويتابع أن “المافيا متغلغلة” وتستفيد من نقاط الضعف في الهيكل الإداري وفي أسلوب عمل المؤسسات الحكومية، على حد قوله.
من جانبه، يقر وكيل وزارة البحار والاستثمار الإندونيسي بضرورة أن تتابع الوزارات المعنية سير عملية الاستثمار والتفاوض في مشاريع كهذه في المستقبل، لتذليل كل الصعوبات مثل تسجيل الأراضي وملكياتها وغير ذلك من الرخص والتصاريح التجارية والاستثمارية، والتي قال إن بعضها قد تأخرت متابعته في مشروع أرامكو مع برتامينا.
وأضاف بورابايا أن الحكومة ستظل تتواصل مع الدول العربية وشركاتها ومستثمريها، إذ هناك الكثير من المشاريع الممكنة والمصافي التي يمكن الاستثمار فيها، مؤكدا أن الوزارات المعنية ستتابع الإجراءات الرسمية لتسهيل الاستثمار.
وتابع أن الحكومة لا تريد أن يترك إنهاء شراكة أرامكو تصورا سلبيا تجاه الاستثمار في إندونيسيا، ووعد بأن بلاده ستظل تعمل على جذب المستثمرين من العالم العربي، وستكون حاضرة في المفاوضات بين أي مستثمر عربي وأي شركة إندونيسية.
المصدر : الجزيرة