فاجأنا قانون قيصر بوجود ثلاث سوريات أو أربع، دول متكاملة، بخرائطها وسلطاتها وجيوشها ورموزها وأعلامها ومؤسساتها وأناشيدها الوطنية، وأخيراً، بعملاتها المختلفة، فيما لا يزال حالمون، ولا سيما سوريو الشتات، لم يحدّثوا بياناتهم بعد، مع الوقائع التي يعيشها سكان “الدول” السورية، وينتظرون خبر سقوط طاغية دمشق.
لطالما استقرّ في وعي السوريين أن هذه الأوضاع، التي جاءت بها ظروفٌ استثنائية وطارئة، ستذهب مع نهاية هذه الظروف، أما النهاية التي حدّدوها في إدراكهم، فتتمثل بسقوط نظام الأسد ورحيله عن سورية إلى الأبد. وفي سبيل هذا الطموح، غدا كل شيء هيناً، من الموت إلى الاعتقال إلى التشرد، ولكن أيضاً، في الطريق إلى تحقيق هذا الطموح، كان الواقع يصنع سياقاتٍ أخرى، خارج قدرة السوريين عن وقفها أو السيطرة عليها.
عشر سنوات عاندت فيها الظروف طموحات السوريين بالخلاص من أوجاعهم، لكنها كانت كفيلةً بالحفر عميقاً في واقع السوريين، مثلما حفرت ذكرياتها السيئة على أجسادهم وأرواحهم وفي وعيهم، وآلاف أطنان الأسلحة التي استخدمت كانت كافية لصنع أنفاق وخرائط جديدة على طول الجغرافيا السورية وعرضها، من دون أن ننسى صراع المشاريع الجيوسياسية التي كان السوريون، بوعي أو بدونه، أدواتها ورصاصاتها وضحاياها. فقد أتقنوا الألعاب الجيوسياسية، إلى درجة أنهم أصبحوا مطلوبين للعمل، مثل العمال الموسميين، لدى المشاريع التي تقع خارج ساحاتهم.
ولكن، هل يحق لمتابع مجريات الأحداث السورية، طوال سنوات الكارثة، أن يُفاجأ اليوم بهذه
“ستكون سورية مضطرّة إلى الخضوع للواقع الذي يأخذها في اتجاهاتٍ ليست مرغوبة ولا مقصودة”الخريطة السورية، والدويلات التي قامت على أنقاض سورية الأسد؟ منذ اليوم الأول في الحرب، وعندما لجأت زمرة الأسد إلى القوة، فإنها كانت تطيح وحدة سورية. وإجراءاتها اللاحقة، استقدام المليشيات الأجنبية وإيران، ثم روسيا، وبعد ذلك منح الأصول السورية آجالاً طويلة لروسيا وإيران، لم يكن لها سوى معنى واحد، دفع سورية إلى التقسيم والتفتّت. وفي التاريخ، القديم والمعاصر، كان استخدام القوّة المفرطة لحل مشكلة سياسية الوصفة الناجحة لتفتيت الدول، ويوغوسلافيا مثال قريب جداً.
ومعلوم أن نظام الأسد عندما لجأ إلى القوّة المفرطة، فعل ذلك للتمهيد لخيار اللجوء إلى إقامة دولة خاصة به في الساحل السوري. هذا ليس افتراضاً، بل واقع مؤكد. أما لماذا حارب على جبهات عديدة، ولم يلجأ على الفور إلى خياره هذا، تقليلاً لحجم الخسائر التي تكبّدها، فذلك مردّه إلى حسابات النظام التي قامت على أساس تدمير المدن السورية، وجعل السوريين يغرقون في جراحهم سنوات وعقوداً طويلة، وإن كل حجر يدمره، وكل فرد يقتله في تلك المناطق، سيسهمان في تعزيز أمن دولة النظام القادمة واستقرارها.
على ذلك، جميع الكيانات التي نشأت خلال هذا المسار التدميري إنما نشأت بحكم الاضطرار. في البداية، كان هدف الجماعات التي أنشأتها، الأهلية والحزبية، حماية وجودها من حرب الفناء التي فرضتها قوّة الأسد الغاشمة وحلفاؤه، ثم لاحقاً، اضطرت هذه الكيانات إلى تنظيم شؤونها، واحتاج هذا سلطة وهياكل لإدارة شؤون هذه التجمعات، وخصوصاً على صعد ضبط الصراعات في داخلها وتوفير الخدمات، والمهمة الأساسية المتمثلة بالحماية من الآخر، نظام الأسد، خلف حدود جغرافية هذه الكيانات، فنشأ عن ذلك داخل وخارج وحدود وشؤون لأشباه دول، راحت تترسخ في الواقع السوري.
لم يتوقف الأمر عند هذه الحدود، خصوصاً أن نظام الأسد تحوّل إلى قوّة احتلال في المناطق التي استعاد السيطرة عليها، وبقي طرفاً خارجياً وممثلاً لدولة افتراضية، هي دولة الساحل التي، وإنْ
“نظام الأسد تحوّل إلى قوّة احتلال في المناطق التي استعاد السيطرة عليها”لم توجد جغرافياً، إلا أنها ترسمت في الواقع الفكري، لدى المحتل، نظام الأسد، والمحتلين، المجتمعات الأهلية التي استعاد النظام السيطرة عليها. وعلى الرغم من أن نظام الأسد قاتل بضراوة بغرض استعادة بقية المناطق لسلطته، إلا أن ذلك لم يعكس رغبته في توحيد سورية، بقدر ما كان الأمر انخراطاً في المشاريع الجيوسياسية لإيران وروسيا، اللتين رغبتا في تقوية أوراقهما الإقليمية والدولية، من خلال السيطرة على مناطق استراتيجية على الحدود مع الجولان والأردن وتركيا والعراق، أو بسبب أهميتها الاقتصادية، مثل مناطق شرق الفرات التي تطمح روسيا إلى السيطرة على ثرواتها النفطية والزراعية، وتشكل بالنسبة إلى إيران جزءاً أساسياً من طريقها إلى المتوسط.
هل انتهى الأمر عند حدود الترسيمة الحالية؟ يصعب الجزم بتوقف صيرورة التفتيت السورية واكتفائها عند هذا الحد، ذلك أن المقسَّم مرشَّح لتقسيماتٍ أخرى نتيجة الصراعات الدائرة في جميع “الدويلات” السورية، وفي مقدمتها دويلة النظام نفسه، التي سيعمّق قانون قيصر أوجاعها بدرجة كبيرة، وسيدفعها إلى البحث عن خيارات أخرى، للخروج من المأزق الذي وضعها فيه حكم الأسد وقانون العقوبات الأميركي، إذ ما زال في الأدراج مشاريع “الأردن الكبير” و”لبنان الكبير”، وربما العراق، وقد تأخذ هذه المشاريع السياق نفسه الذي تشكّلت فيه الكيانات الموجودة الآن، في البداية ضرورة، ثم تتحوّل إلى واقع يصعب تغييره.
الغريب في ذلك كله، أنه لا أفق لسقوط الأسد لوقف عجلة الانهيار السورية، فالبلاد، على الرغم من أنها استنزفت قدرتها في انتظار هذا اليوم الموعود، ستكون مضطرّة إلى الخضوع للواقع الذي يأخذها في اتجاهاتٍ ليست مرغوبة ولا مقصودة.
غازي دحمان
العربي الجديد