لبنان في أزمة نظام بنيوية لا بحث في حل جذري لها. لا في مؤتمرات الحوار ولا في الصراعات المسلحة. مجرد تسويات مؤقتة تخدم قليلاً قبل أن تطويها صراعات جديدة هنا أو في المنطقة. حتى عندما جرى التفاهم في اتفاق الطائف على مسار طويل لتجاوز الطائفية إلى دولة المواطنة، فإن المسار تعطّل في الداخل وازداد تعقيد الأمور بقوة الاندفاع الإقليمي نحو الصراعات المذهبية. وهي أزمة كان لها حارس واحد فصار لديها حارسان: واحد تقليدي تخدم الأزمة مصالحه ويحرص على تصويرها بأنها هي الحل، وآخر مستجد يوظفها مرحلياً، ويحول دون أي حل إيجابي وطني لها من أجل أن تصل إلى مرحلة الاهتراء الكامل، بما يعطيه فرصة لفرض حل أسوأ من الأزمة، حل ثيوقراطي مذهبي لنظام طائفي.
أما البحث الدائر، فإنه في الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية الطاغية على سطح المعضلة البنيوية، وفي هذا البحث فإن أزمة السلطة الملحة شيء وأزمة المجتمع شيء آخر.
مشكلة السلطة وأهلها ليست حجم الدين العام بأرقامه الفلكية بل العجز عن الاستدانة للاستمرار في المزيد من الشيء نفسه. وأزمة المجتمع هي سطو النافذين على المال العام والمال الخاص، بحيث صارت ودائع الناس في المصارف مجرد أرقام على شاشات الكمبيوتر، وبدا الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج مهمة مستحيلة. مشروع السلطة هو تدفيع الضحايا ثمن ما ارتكبه النافذون من جرائم سطو وهدر، وبالتالي “تصفير” الديون لبدء الاقتراض من جديد ومعه السطو. ومشروع الناس اليوم ليس الطموح إلى حل شامل بل الاكتفاء بحل عملي يُعيد الثقة بلبنان ويخرجه من هاوية الانهيار.
والمفتاح هو الإصلاح. هذا هو الحد الأدنى مما طالب به الشارع الثائر منذ شهور. وهذا ما قاله لنا صندوق النقد الدولي في المفاوضات وعبر الإعلام، حين حدّد جيري رايس الناطق باسم الصندوق ثلاث خطوات متكاملة لتحقيق الإصلاحات: تشخيص مشترك لمصدر الخسائر المالية وحجمها، خيارات لمعالجتها على نحو فعّال ومنصف، وتوافق وقبول من المجتمع ككل. وهو ما التزمناه في مؤتمر “سيدر” في باريس، وما تكرر فرنسا قوله لنا. لكن السلطة لا تزال تلف وتدور هرباً من الإصلاح، لماذا؟ لأن الإصلاح يعني التوقف عن السرقة. ولا شيء يوحي بأن التركيبة السياسية على استعداد لممارسة “الانتحار السياسي” بالتوقف عن الهدر والسطو على المال العام. لا كون الخيارات ضيقة جداً، و”حين لا تكون لديك خيارات، فإن اتخاذ القرار سهل”، كما قال رئيس الوزراء الهندي السابق راو. ولا الخوف من الانهيار الكامل، ونحن نرى انهيار سعر الليرة أمام الدولار في أسوأ أزمة اقتصادية، بحيث يصح فينا قول لينين: “أفضل طريقة لتدمير النظام الرأسمالي هي إفساد العملة”.
أكثر من ذلك، فإن السلطة الحالية التي انحرفت عن سياسة “النأي بالنفس” أوصلتنا إلى ممارسة العرب والغرب “النأي بالنفس” عن لبنان. وكلما سمعنا الاستعدادات في عواصم العرب والغرب لمساعدتنا شرط الإصلاحات والعودة إلى النأي بالنفس، وقف أمين عام “حزب الله” يدعونا إلى ترك الغرب والاتجاه نحو “الشرق”. وهذه وصفة الذهاب إلى الحصار، وقت البحث الرسمي عن السعي لدى أميركا لتأمين بعض “الإعفاءات”. من عقوبات “قانون قيصر” التي تطال المسؤولين السوريين وكل من يقدم الدعم لهم. ولا أحد يعرف كيف يمكن أن نجد صيغة توفيقية بين الحاجة إلى أميركا وأوروبا والعرب وبين واقع الحكم الذي لا يزور ولا يُزار على المستوى المعهود في لبنان، وتحكّم “حزب الله” بالسلطة. فالوطن الصغير “يدفع ثمن كونه قاعدة إيرانية متقدمة”، كما رأى آلان روجر من منظمة “أبحاث أوروبا متغيرة”. وأصحاب السلطة يراهنون على الانقسام السياسي ويستفيدون منه ويعملون على تعميقه، وهم يدعون في الخطاب إلى الوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات السياسية.
وإذا كانت مقدمة الدستور تنص على أن “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، فإن السلطة فاقدة للشرعية لأسباب ثلاثة: العجز عن حماية السيادة والأرض والاتكال على “خصخصة” الدفاع عن البلد، العجز عن تقديم الخدمات للمواطنين، والحرص على الهدر ونهب المال العام.
ومن الوهم انتظار الدولارات من دون إصلاحات وبلا امتناع عن السرقة.
رفيق خوري
اندبندت عربي