الكلمات الاكثر تداولا في العراق هذه الايام على المستويين الرسمي والشعبي معا هي “الفساد”، و”الاهمال”، و”اهدار المال العام”، و”اللصوص”، و”المحسوبية”، وكل واحدة منها كفيلة بتفجير ثورة، وليس انتفاضة او مظاهرات احتجاج فقط.
الحديث عن الفساد والمتورطين فيه من كبار رجالات الدولة وقادة الاحزاب، وبعض المرجعيات الدينية كان العمود الفقري لمعظم مقالات الصحف ونشرات الاخبار في محطات التلفزة، في تزامن مع الاحتجاجات الشعبية الضخمة التي سادت مدن عراقية عديدة احتجاجا على سوء الخدمات، وعجز الدولة وفسادها، لكن الموضوع الاسخن حاليا هو نتائج لجنة التحقيق البرلمانية التي دعت عددا من المسؤولين العراقيين الكبار على رأسهم السيد نوري المالكي رئيس الوزراء السابق للمثول امامها للتحقيق بتهمة الاهمال الذي ادى الى سقوط الموصل في ايدي المئات فقط من مقاتلي “الدولة الاسلامية” العام الماضي.
ومن المفارقة ان النسبة الاكبر من المتهمين بالاهمال هم انفسهم الذين تورطوا في الفساد واهدار المال العام، وانعدام شبه كامل للخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم طوال السنوات العشر الماضية.
السيد المالكي ما زال يعيش حالة “انكار” غير مسبوقة، ويحاول التنصل من مسؤولياته من خلال الاصرار على ان ما حدث في مدينة الموصل كان “مؤامرة” تم التخطيط لها في انقرة ثم انتقلت الى اربيل، مثلما كتب على صفحته الرسمية على شبكة “الفيسبوك”، وشكك في الصفحة نفسها في نتائج لجنة التحقيق، وقال انه “لا قيمة لها”.
فاذا كان السيد المالكي الذي كان يترأس الوزارة، ويعتبر الرجل الاول في البلاد، والقائد الاعلى للقوات المسلحة، وزعيم الحزب الحاكم ليس مسؤولا عن سقوط مدينة الموصل فمن المسؤول اذا؟
ولنفترض ان “نظرية المؤامرة” التي يحاول السيد المالكي القاء تبعات فشله عليها، صحيحة فعلا، وجرى اعداد الطبخة في انقرة، ومن ثم اربيل، فلماذا لم يتصد لها، ويعمل على احباطها وهو الذي شكل جيشا واجهزة امنية من نصف مليون جندي وكادر، وانفق على تدريبها وتسليحها اكثر من 27 مليون دولار؟
الموصل سقطت على ايدي بضعة مئات من مقاتلي “الدولة الاسلامية” ليس لان هؤلاء يتمتعون بعقيدة قتالية “جهادية” صلبة فقط، وانما لان الذين من المفترض ان يدافعون عنها، ويزيد تعدادهم عن ثلاثين الفا مجهزين باحدث الاسلحة والمعدات ليس لديهم اي عقيدة، قتالية او غير قتالية، وتركوا معداتهم ومخازن اسلحتهم، وفروا طلبا للسلامة بعد ن تخلوا عن بزاتهم العسكرية، وقايضوا اسلحتهم الشخصية بملابس مدنية.
ربما تكون انقرة متورطة فعلا في المؤامرة التي تحدث عنها السيد المالكي، وان كنا نشك في ذلك، ولكن من المستحيل ان تكون اربيل وحكومة السيد مسعود بارزاني في شمال العراق لها دور فيها، بدليل ان قوات “الدولة الاسلامية” تقدمت نحو اربيل مباشرة بعد الاستيلاء على الموصل، ووصلت الى اطرافها، وكان هذا احد ابرز اخطائها، لان التوجه نحو الجيب الكردستاني العراقي يعتبر مثل اسرائيل خط احمر بالنسبة الى الادارات الامريكية، وهذا ما يفسر مبادرة وزارة الدفاع الامريكية بارسال اسراب طائراتها الى العراق لقصف قوات “الدولة الاسلامية” بشراسة، ومنع استيلائها على اربيل بعد انهيار قوات البيشمرغة امامها مثل بيت العنكبوت، وبسرعة غير متوقعة.
السيد المالكي يجب ان لا يمثل امام لجنة التحقيق البرلمانية بتهم الاهمال، وانما في قفص الاتهام امام محكمة مدنية بتهم اكثر خطورة، تتعلق بالجرائم التي ارتكبها وميليشياته في حق الآلاف من العراقيين الذين ماتوا تحت التعذيب في اقبية وزارة الداخلية، وبعض المراكز الامنية الاخرى ناهيك عن السجون والمعتقلات، وهناك عمليات توثيق كاملة لمثل هذه الجرائم، وهناك ضحايا ما زالوا على قيد الحياة، ومستعدين لتقديم شهاداتهم بأدق التفاصيل.
كيف نتوقع صمود الجيش العراقي في الموصل او غيرها والغالبية الساحقة من قياداته غارقة في الفساد والطائفية؟ وكيف نتصور ان يقاتل هذا الجيش، واكثر من 65 الفا من جنوده كانوا “وهميين”، والمسؤولين في وزارة الدفاع نهبوا مئات المليارات من الميزانية في صفقات اسلحة وهمية ايضا؟
هذا هو “العراق الجديد” الذي اقامه الامريكان على انقاض النظام السابق وبعد احتلال العراق وتدميره وتمزيقه سياسيا واجتماعا وطائفيا، وقالوا انه سيكون نموذجا في الشفافية والديمقراطية والعدالة والمساواة والامن والاستقرار، وتدخلوا بكل قوتهم لتنصيب السيد المالكي، وكل طبقة الفاسدين في قمة قيادته.
السيد المالكي والمجموعة المحيطة به، والمعروفة فردا فردا، والداعمون لهم في ايران والمرجعيات الدينية ليسوا مسؤولين عن سقوط الموصل فقط، وانما العراق كله، ويجب ان يقدموا الى محاكمات عادلة وعلنية وان ينالوا العقاب الذي يستحقونه.
“راي اليوم”