لماذا يسعى زعماء العالم وراء مشورة هنري كيسنجر؟

لماذا يسعى زعماء العالم وراء مشورة هنري كيسنجر؟

هناك أسباب أخرى غير طول عمره في أنّ الكثير من قادة العالم، ومن بينهم الرئيس الصيني شي جين بينغ، يواصلون السعي للحصول على مشورة هنري كيسنجر، الذي تنحى عن منصب وزير الخارجية الأمريكي منذ ما يقرب من أربعة عقود. وفي هذا الصدد، يُعدّ باراك أوباما هو حالة الاستثناء الوحيدة؛ فهو أول رئيس أمريكي منذ دوايت إيزنهاور لا يطلب المشورة من كيسنجر. لذا؛ يحث الخبراء أوباما من وقت لآخر على أن يكون “كيسنجريًا”، ويرى آخرون أنه كيسنجري من الناحية العملية، إن لم يكن في أسلوبه الخطابي أيضًا. لكن، ما الذي يعنيه هذا المصطلح؟

الجواب التقليدي عن هذا السؤال يعادل كيسنجر بالواقعية، وهي فلسفة موسومة من خلال تقييم متزن للسياسة الخارجية في ضوء المصالح الذاتية الوطنية، أو في عبارة الصحفي أنتوني لويس “هوسٌ بالنظام والسلطة على حساب الإنسانية“. في عام 1983، صوّر ستانلي هوفمان، وهو زميل سابق بجامعة هارفارد، كيسنجر باعتباره مكيافيليًا “يؤمن بأنّ الحفاظ على الدولة يتطلب القسوة والخداع على حساب الخصوم في الخارج والداخل“. رأى العديد من الكتّاب أنّ كيسنجر شكّل نفسه على غرار أبطاله المتخيّلين مثل رجل الدولة النمساوي كليمنس فون مترنيش والزعيم البروسي أوتو فون بسمارك، وهما من حملة معايير السياسة الواقعية الكلاسيكية في أوروبا.

ومع ذلك، وصف الباحث في العلاقات الدولية هانز مورغنثاو، الذي كان واقعيًا حقيقيًا، كيسنجر بأنّه مثل أوديسيوس “متعدد المواهب”. وفي أوائل ستينيات القرن المنصرم، على سبيل المثال، عندما أثير السؤال المؤلم بشأن كم ينبغي على الولايات المتحدة دعم حكومة فيتنام الجنوبية، اعتقد كيسنجر في البداية أنّ حق فيتنام الجنوبية في تقرير المصير سيتكلّف حياة العديد من الشعب الأمريكي. لكنّ هانز مورغنثاو، الواقعي الأصيل، اختلف معه بشدة.

وفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لم يكتب كيسنجر عن مترنيخ وبسمارك، ولكن مَن قرأ (أو أساء عمدًا قراءة) ما كتبه يمكن أن يجادل بأنّه بدأ في فترة السبعينيات بتكرار نهجهما في السياسة الخارجية. وبعيدًا عن كونه مكيافيليًا، كان كيسنجر منذ بداية مسيرته مثاليًا على الأقل في ثلاثة جوانب من معنى الكلمة.

أولًا: حتى لو لم يكن كيسنجر مثاليًا من حيث تقاليد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، الذي سعى لتحقيق السلام العالمي من خلال القانون الدولي والأمن الجماعي؛ فإنّه لم يكن واقعيًا كذلك. رفض كيسنجر مثالية ويلسون لأنّه شعر أن سعة أفق تلك المثالية هي الوصفة المناسبة لما أسماه العجز السياسي. وبحسب تعبيره لصديقه المؤرخ ستيفن جروبارد في عام 1956، قال كيسنجر: “إنّ الإصرار على الأخلاق النقيّة هو بحد ذاته أكثر المواقف غير الأخلاقية“؛ لأنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوقف عن العمل. ولكنّ كيسنجر كان يعرف أنّ الواقعية يمكن أيضًا أن تكون أداة تعجيزية. كلاجئ من ألمانيا النازية عاد في عام 1944 في زي عسكري أمريكي للعب دوره في الهزيمة الأخيرة للنازية، دفع كيسنجر ثمنًا شخصيًا إزاء الإخفاقات الدبلوماسية في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن، كما أشار في مقابلة عام 1957، كان مهندسا سياسة الاسترضاء في بريطانيا ستانلي بالدوين ونيفيل تشامبرلين “يعتقدان أنهما من أقوى أنصار مذهب الواقعية“.

ثانيًا: بعد تخرجه في جامعة هارفارد في أعمال إيمانويل كانط، كان كيسنجر مثاليًا بالمعنى الفلسفي. أطروحته غير المنشورة (معنى التاريخ) كانت نقدًا رائعًا لفلسفة التاريخ عند كانط. وكانت الحُجة المركزية لدى كيسنجر هي أنّ “الحرية عبارة عن تجربة داخلية للحياة بما هي عملية للبحث عن بدائل مجدية“. في الواقع، قد يكون “السلام الدائم” هو الهدف الحتمي والجوهري للتاريخ، كما يقول كانط، ولكن من وجهة نظر فردية، تلك الحتمية ليست قيدًا على الحرية. كما كتب كيسنجر في أطروحته: “أيًا كانت تصورات المرء حول حتمية الأحداث، فإنّه في لحظة حدوثها لا توفر الحتمية أي دليل للتصرف. ورغم أننا قد نفسر الإجراءات في وقت لاحق؛ إلّا أنّ تحققها يحدث بقناعة داخلية للاختيار“.

ثالثًا: في بداية حياته المهنية، كان كيسنجر ضد الماديّة عن قناعة تامة، وكان معاديًا لأشكال الرأسمالية الاقتصادية الحتمية بنفس عدائه للماركسية اللينينية. وجادل في أطروحته أنّه أمر خطير أن نسمح “لنقاش عن الديمقراطية أن يتحول إلى نقاش عن كفاءة النظم الاقتصادية، وهو في مستوى الحتمية الموضوعية، وبالتالي قابل للنقاش“. وفي المقابل “فإنّ الحدس الداخلي للحرية سيرفض الشمولية حتى لو كانت أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية”. وهذا الموقف يتناقض بشكل صارخ مع آراء بعض المعاصرين، مثل الخبير الاقتصادي والمنظّر السياسي والت روستو، الذي يرى أنه كان من الممكن الفوز بالحرب الباردة منذ وقت طويل حينما كانت معدلات نمو الرأسمالية أعلى من معدلات الشيوعية

كتب كيسنجر في كتاب “حتمية الاختيار”: “ما لم نكن قادرين على جعل مفاهيم الحرية واحترام الكرامة الإنسانية ذات معنى للدول الجديدة؛ فإنّ المنافسة الاقتصادية بيننا وبين الشيوعية ستكون من دون معنى“، وبعبارة أخرى: يجب الدفاع عن المُثل الديمقراطية الليبرالية من أجل هذه المُثل نفسها، دون الاعتماد على النجاح المادي للرأسمالية لإثباتها. وكان هذا الموضوع الذي عاد إليه كيسنجر مرارًا وتكرارًا في ستينيات القرن الماضي كمستشار وكاتب لخطابات لنيلسون روكفلر، إلى جانب دعمه في ثلاث محاولات فاشلة للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة.

كما ذكر كيسنجر في المجلد الأول من مذكراته أنّ “المناصب العليا تعلمنا صنع القرار، وليس الجوهر. وبشكل عام، تستهلك الفترة التي نقضيها في أي منصب رفيع رأس مالنا الفكري، ولا تصنعه“. ومنذ أن انصب اهتمام الباحثين على الفترة التي قضاها كيسنجر في منصبه، فإنّ رأس ماله الفكري -الأفكار التي طوّرها بين بداية الخمسينيات وأواخر الستينيات في جامعة هارفارد، وفي مجلس العلاقات الخارجية، وحتى لروكفلر نفسه- لم تتم دراسته بدرجة كافية. كما تمّ فهم أفكاره على أنها نقد مبتكر للسياسة الواقعية، وقدّم كسينجر ما لا يقل عن أربع أفكار رئيسة في السياسة الخارجية من الأفضل أن يدرسها أوباما، ناهيك عن خليفته، وهي: التاريخ هو المفتاح لفهم المنافسين والحلفاء، يجب على المرء مواجهة مشكلة التخمين بنتائجها غير المتماثلة، العديد من قرارات السياسة الخارجية هي اختيار بين الشرور، والفكرة الأخيرة هي أنّ القادة يجب أن يكونوا حذرين من مخاطر الواقعية الباطلة من الناحية الأخلاقية.

التاريخ هو ذاكرة الدول

بعد الفلسفة المثالية، كان الشيء الأكثر أهمية الذي تعلمه كيسنجر في جامعة هارفارد هو مركزية التاريخ لفهم مشاكل الأمن القومي. “ليس ثمة استنتاجات هامة ممكنة في دراسة الشؤون الخارجية -دراسة الدول بوصفها وحدات- دون وعي بالسياق التاريخي“، هكذا كتب كسينجر في رسالة الدكتوراه، التي نُشرت في عام 1957 بعنوان “عالمٌ مستعاد”: “إنّ ذاكرة الدول هي اختبار لحقيقة سياستهم. وكلما كانت التجربة أكثر بدائية، كان أثرها أكثر عمقًا على تفسير الأمة للحاضر في ضوء الماضي”. ورغم كل شيء، تساءل كيسنجر: “مَن الذي يختلف مع تفسيرات الشعوب لماضيهم؟ إنّها السُبل الوحيدة لمواجهة المستقبل، وما حدث حقًا يكون في كثير من الأحيان أقل أهمية مما كان يُعتقد أنه سيحدث“. بالنسبة للباحث السياسي، قد تبدو الدول “مجرد عوامل في إجراء أمني“. وبالنسبة للمحامي، قد تبدو الدول وكأنها أطراف قابلة للتبادل في سلسلة متوالية لا تنتهي من الدعاوى القضائية الدولية. في الواقع، كتب كيسنجر أنّ جميع الدول “ترى نفسها بوصفها تعبيرًا عن قوى تاريخية. ومن ثم؛ فإنّ التوازن كغاية لا يعنيهم، ولكن كوسيلة نحو تحقيق تطلعاتهم التاريخية“.

ثمة فكرة رئيسة متكررة في كتابات كيسنجر الأخيرة، وهي الجهل التاريخي لصانع القرار الأمريكي. وقال في عام 1968 إنّ المحامين هم “أحد أهم المجموعات في الحكومة، ولكن لديهم هذه النقيصة أيضًا: وهي الافتقار إلى المعرفة التاريخية“. يرى كيسنجر أنّ التاريخ له أهمية مضاعفة: كمصدر لإلقاء الضوء على الحالات المشابهة وكعامل حاسم في فهم الذات الوطنية. ربما يشكّك الأمريكان في أهمية التاريخ، ولكن كما كتب كيسنجر: “يشعر الأوروبيون، الذين يعيشون في قارة مغطاة بأنقاض تشهد على خطأ التبصر الإنساني، أنّ التاريخ أكثر تعقيدًا من تحليل الأنظمة“.

ما وراء المجهول

على النقيض من معظم الأكاديميين، أدرك كيسنجر في بداية حياته المهنية أن قرارات السياسة عالية المخاطر في كثير من الأحيان يجب أن تؤخذ قبل معرفة كل الحقائق. وقال في كتابه “عالمٌ مستعاد”: “الاختيار بين السياسات لا يكمن في (الوقائع)، ولكن في تفسيرها. ويشمل ما كان في جوهره فعلًا أخلاقيًا؛ وهو تقدير يعتمد في صلاحيته على مفهوم الأهداف بقدر ما يعتمد على فهم المواد المتاحة“.

وكانت هذه فكرة وسمها كيسنجر في وقت لاحق بأنها “مشكلة التخمين في السياسة الخارجية“. وفي محاضرة عام 1963، جادل بأنّ صناعة القرار:

“تتطلب القدرة على توقع ما وراء المعروف. وعندما يكون المرء في عالم جديد، يصل إلى المعضلة بأنّه ليس هناك سوى القليل لتوجيه صانع السياسة باستثناء القناعات التي يحملها إلى هذا العالم. كل رجل دولة يجب أن يختار في مرحلة بين ما إذا كان يرغب في اليقين أو ما إذا كان يرغب في الاعتماد على تقييمه للوضع. وإذا أراد المرء دليلًا واضحًا؛ أصبح سجينًا للأحداث“.

إذا تحركت الديمقراطيات ضد النازيين في عام 1936، قال كيسنجر: “لما كنا عرفنا اليوم ما إذا كان هتلر وطنيًا أُسيء فهمه، سواء كان لديه أهداف محدودة أو ما إذا كان مجرد قائد مجنون. لقد تعلمت الديمقراطيات أنّه كان مجنونًا. كان على يقين من ذلك، ولكن كان عليهم دفع ثمن ذلك مع بضعة ملايين من الأرواح“.

كانت لهذه الرؤية آثار عميقة على العصر النووي، عندما كان من الممكن أن تصل الخسائر المحتملة للحرب العالمية إلى مئات الملايين. وفي عام 1963، في ورقة غير منشورة بعنوان “صنع القرار في عالم نووي”، لخص كيسنجر ما أسماه “المعضلة الرهيبة” التي واجهت صانع قرار الحرب الباردة:

“كل زعيم سياسي لديه حرية الاختيار بين إجراء تقييم يتطلب جهدًا أقل أو إجراء تقييم يتطلب المزيد من الجهد. وإذا أجرى التقييم الذي يتطلب الجهد الأقل؛ إذن مع مرور الوقت قد يتبيّن أنّه كان مخطئًا ومن ثم فإنه سيضطر إلى دفع ثمن باهظ. وإذا تصرف على أساس التخمين، فإنّه لن يكون قادرًا على إثبات ضرورة جهوده، لكنه قد يعفي نفسه من قدر كبير من الحزن في وقت لاحق. وإذا تصرف في وقت مبكر، فإنّه لا يمكنه معرفة ما إذا كان ذلك ضروريًا أم لا. وإذا انتظر، فإنّه قد يكون محظوظًا أو قد يكون سيئ الحظ“.

تكمن النقطة الرئيسة حول مشكلة التخمين في تماثل النتائج. لا تؤدي الإجراءات الوقائية الناجحة إلى نتائج إيجابية بما يتناسب مع فوائدها؛ لأنّه كما كتب كيسنجر: “إنّها طبيعة السياسات الناجحة أن تنسى الأجيال القادمة كيف كان من الممكن أن تصبح الأمور أكثر سهولة خلاف ذلك“. من المرجح أن تتم إدانة لرجل الدولة الوقائي بسبب التكاليف المدفوعة مقدمًا لسياساته الاستباقية لا أن تتم الإشادة به نظير تجنبه لحدوث الكارثة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ كسب الوقت -وهو جوهر سياسة الاسترضاء في ثلاثينيات القرن المنصرم- ليس من المؤكد أن يؤدي إلى كارثة. وبذل جهد أقل هو عادة خط المقاومة الأقل محيلة.

أهون الشرور

“ليس هناك شيء صوابًا أو خطأ، ولكن ثمة العديد من الظلال بينهما“، هكذا كتب الشاب كيسنجر في عام 1948، في خطاب ملهم إلى والديه، قال فيه: إن المآسي الحقيقية في الحياة ليست في الاختيار بين الحق والباطل؛ لأنّ الأشد قسوة على الأشخاص هو اختيار ما يعرفون أنه خطأ. المعضلات الحقيقية هي الصعوبات التي تُثقل الروح، وتثير عذاباتها. ببساطة، الخيارات الأكثر صعوبة في السياسة الخارجية من المؤكد أنها خيارات بين الشرور؛ وبالتالي فإنّ الفعل الأخلاقي حقًا هو اختيار أهون الشرين (حتى لو كان الاختيار الأصعب من الناحية السياسية).

في عام 1957، في كتاب “الأسلحة النووية والسياسة الخارجية” على سبيل المثال، قال كيسنجر إنّ الحفاظ على توازن القوى في الحرب الباردة سوف يحتاج إلى مثل هذه الخيارات الصعبة:

“نحن على يقين من أننا سنواجه حالات غموض استثنائية، مثل الحروب الأهلية أو الانقلابات المحلية. وليس هناك شك في أننا يجب أن نسعى لمنع مثل هذه الحوادث. ولكن بمجرد حدوثها، يجب علينا أن نجد الإرادة للعمل والسيطرة على المخاطر في وضع لا يسمح إلا بالاختيار بين الشرور. وفي حين أننا لا يجب أن نتخلى أبدًا عن مبادئنا؛ يجب علينا أيضًا أن ندرك أننا لا يمكن الحفاظ على مبادئنا إلّا إذا كنا على قيد الحياة“.

الأساس الفلسفي لهذا الكتاب هو أنّ الشيء الذي يبدو بغيضًا، مثل حرب نووية محدودة، قد يكون أهون الشرين إذا كانت البدائل هي الاستسلام أو الإبادة. في الفصل الأخير من الكتاب، يوضح كيسنجر نظرية أهون الشرور التي يمكن قراءتها على أنها نوع من أنواع العقيدة:

“سيكون من المريح لو استطعنا حصر أعمالنا على الحالات التي تكون فيها مواقفنا الأخلاقية والقانونية والعسكرية في وئام تام وحيث تكون الشرعية متوافقة مع متطلبات البقاء على قيد الحياة. ولكن كأقوى قوة في العالم، فإننا ربما لن نُمنح أبدًا الخيارات الأخلاقية البسيطة التي كنا نصرّ عليها في ماضينا الأكثر أمنًا. وللتعامل مع مشاكل هذا الغموض المفترض فوق كل فعل أخلاقي، يجب الاستعداد لإدارة المخاطر على معرفة جزئية وتطبيق أقل من مثالي لأحد المبادئ. الإصرار على الأمور المطلقة هو وصفة التوقف عن العمل“.

وفي عام 1966، قدّم كيسنجر حُجة مماثلة عن فيتنام، وقال: “ليس لدينا رفاهية اتخاذ قرار يواجه تلك التحديات التي تتملق تصوراتنا الأخلاقية المسبقة“. ولكن، بحلول ذلك الوقت، أدرك كسينجر أنّ الحرب ضد فيتنام الشمالية لا يمكن أن تنتهي إلّا من خلال التفاوض. ورأى أنّ الولايات المتحدة “تفتقر إلى مفهوم شامل لإجراء العمليات العسكرية ضد المتمردين، وبناء الأمة“. وكانت وصفتها للموارد الوفيرة والبيروقراطية المعقدة غير مناسبة. لقد كان السلام المتفاوض بشأنه هو أهون الشرور مقارنة بالتخلي المتسرع عن فيتنام الجنوبية أو تصعيد الجهود العسكرية الأمريكية ضد كوريا الشمالية.

وهم الواقعية

في كتاباته عن مترنيخ وبسمارك، لاسيما في كتابه الذي لم يكتمل عن هذا الأخير، أوضح كيسنجر أنّه يرى الواقعية النقية في السياسة الخارجية كفعل مدمّر. وكتب في فصل غير منشور عن بسمارك: “المجتمعات عاجزة عن شجاعة السخرية. لقد أدى الإصرار على الرجال كأنهم ذرات، وعلى المجتمعات كقوى فاعلة، إلى تآكل حاد في ضبط النفس. ولأنّ المجتمعات تعمل بواسطة القيّم التقريبية، ولأنها غير قادرة على التمييز الدقيق؛ فإنّ مذهب السلطة كوسيلة قد ينتهي بجعل السلطة غاية بحد ذاتها“.

ومن المؤكد أنّ هناك الكثير في استراتيجية بسمارك حتى يُعجب بها كيسنجر؛ فمن خلال دراسة بسمارك رأى كسينجر الأهمية الحاسمة لضرورة لعب المنافسين لمباراة فاصلة. وفقًا لكيسنجر، بعد توحيد ألمانيا، فإنّ النظام الأوروبي الجديد الذي وضعه بسمارك يتوقف على قدرته على “التعامل مع التزامات القوى الأخرى؛ بحيث لن تكون روسيا أقرب إلى أي من الأطراف المتنازعة أكثر مما كانت عليه تلك الأطراف مع بعضها البعض“. أُعجب كيسنجر بالغموض الأنيق “لمعاهدة إعادة الضمان” التي أبرمها بسمارك -وهي اتفاق سريّ بموجبه ستلتزم ألمانيا وروسيا بالحياد في حال تورط أي منهما في حرب مع بلد ثالث، ما لم تهاجم ألمانيا فرنسا أو تهاجم روسيا النمسا والمجر، والتي أدى التخلي عنها من قِبل خلفاء بسمارك إلى جمود قاتل في الدبلوماسية الأوروبية. ومع ذلك، في مقالة له بعنوان “الأبيض الثوري”، قال كيسنجر إنّ بسمارك، مع وجهة نظره الداروينية عن العلاقات الدولية والصراع الأخلاقي من أجل البقاء، كان محكومًا عليه بالفشل في محاولته لإضفاء الطابع المؤسسي على إنجازاته الجيوسياسية.

المشكلة الرئيسة في العصر الديمقراطي، بحسب كيسنجر، كانت أنّ الناس يميلون إلى تفضيل القادة الذين يتمتعون بالشعبية عن رجال الدولة البارعين. وكتب كيسنجر في “عالم مستعاد”: إنّ ادعاءات القائد هي مشورة مثالية، لكنها لا تحقق اليوتوبيا إلّا من خلال عملية التسوية والتفكك التي يجب أن تمزق جميع أشكال الالتزام، في حين أنّ الاعتماد الكلي على النقاء الأخلاقي للفرد هو التخلي عن إمكانية ضبط النفس. معارضًا للقائد، وقف كيسنجر مع رجل الدولة الذي “يجب أن يبقى متشكّكًا إلى الأبد في هذه الجهود، ليس لأنّه يتمتع بتفاهة التلاعب؛ ولكن لأنّه يجب أن يكون مستعدًا لأسوأ الأحوال“. جزء من مأساة رجل الدولة هو أنه يجب أن يكون دائمًا ضمن الأقلية “لأنّ التوازن ليس هو الذي يلهم الناس؛ بل الشمولية، وليس الأمن ولكن الخلود“.

عرض السبعينيات

في نواح كثيرة، توضح خبرة كيسنجر في الحكومة هذه النقطة الأخيرة بشكل جيد. وبالرغم من أنّ الصحافة تطلق عليه اسم “سوبر ك”، لكنه فيما بعد أصبح هدفًا لهجمات لاذعة من اليسار واليمين: الأول اتهمه بارتكاب جرائم حرب في العالم الثالث، وهذا الأخير اتهمه بالخنوع للكرملين. ونتيجة لذلك؛ ليس هناك أي أدلة تذكر على أنّ رؤى كيسنجر في السياسة الخارجية تميزت بالطابع المؤسسي أو حتى باتت محفوظة في الذاكرة.

“لا يوجد شيء مثل السياسة الخارجية الأمريكية“، هكذا كتب كيسنجر في مقال نشره في عام 1968. ليس هناك سوى سلسلة من التحركات التي تؤدي إلى نتيجة معينة، والتي قد لا يكون تم التخطيط لإنتاجها بالأساس، وتحاول المنظمات البحثية والاستخباراتية، سواء الأجنبية أو الوطنية، إضفاء العقلانية والاتساق اللذين تفتقر إليهما تلك التحركات. يمكننا قول هذا اليوم، بعد أكثر من 40 عامًا. إنّ تفسير كيسنجر لعدم وجود ترابط استراتيجي نابع من الأمراض الديمقراطية الحديثة. وعلى النقيض من قادة القرن التاسع عشر، أوضح كسينجر أنّ “الزعيم السياسي النموذجي للمجتمع الإداري المعاصر هو رجل ذو إرادة قوية، وقدرة عالية للحصول على أصوات الناخبين، وليس تصورًا كبيرًا عما سيقوم به عندما يتولى المنصب“. ومرة أخرى، يمكننا قول الشيء نفسه عن الوضع اليوم.

لا يميل أوباما ومستشاروه إلى النزعة التاريخية. في واحدة من التعليقات التي لا تُنسى من الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2012، سخر أوباما من منافسه الجمهوري ميت رومني، وقال: “جيل الثمانينيات يطالب بعودة سياسته الخارجية؛ لأنّ الحرب الباردة انتهت منذ 20 عامًا“. كان يسخر أوباما من وصف رومني لروسيا بأنها “عدونا الجيوسياسي رقم واحد“. ولكن، بعد 17 شهرًا فقط، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي. ولذا؛ فإنّ تباهي أوباما في يناير عام 2014 بأنه لم يكن “بحاجة إلى جورج كينان” لم يكن حقيقيًا.

ومع ذلك، ربما كان جيل السبعينيات هو مّن طالب بذلك. وكما هو الحال الآن، شهد الاقتصاد الأمريكي صدمة شديدة تركت مخلفات دائمة. الصدمة النفطية لعام 1973 ألقت بظلالها على الأزمة المصرفية عام 2008. ومثل ريتشارد نيكسون، ورث أوباما حربًا لم يخسرها من الناحية العسكرية ولكنها أصبحت لا تحظى بشعبية في الداخل. لقد كان العراق فيتنام هذا الجيل، لكن بفضل الطفرة التي قادها بعض القادة مثل ديفيد بترايوس وستانلي ماكريستال ورث أوباما حربًا كان يجري الفوز بها.

ومثل نيكسون، واجه أوباما روسيا التي هي تهتم بالعلاقات الودية أقل بكثير مما تدعي في بعض الأحيان. من السهل أن ننسى أنّ الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف، في ريعان شبابه كان يشبه بوتين، كان عازمًا على السلطة ليس فقط في الفناء الخلفي لروسيا بل في جميع أنحاء العالم. ومثل نيكسون أيضًا، يجد أوباما أنه من الصعب السيطرة على حلفائه في أوروبا وآسيا. اليوم، ينفق الأوروبيون الغربيون القليل من الأموال على الدفاع كنسبة من الدخل القومي أقل مما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي. لقد نسوا القول المأثور لكيسنجر بأنّه “أينما كان السلام -كتصور لتجنب الحرب- هو الهدف الأساسي لأي قوة أو مجموعة من القوى؛ فإنّ النظام الدولي يقع تحت رحمة العضو الأكثر قسوة من المجتمع الدولي“. وفي الوقت نفسه، يسير الآسيويون في الاتجاه المعاكس، ويضعون استراتيجيات عسكرية خاصة بهم للتعامل مع صعود الصين والاعتقاد بأنّ ما يسمى محور أوباما إلى آسيا هو مجرد خدعة. كما أصبح الشرق الأوسط الآن مثل برميل البارود الذي من الممكن أن ينفجر في أي لحظة مثلما كان وكيسنجر في منصبه.

كل ما يمكن للمرء أن يجادل به حول السياسات الخارجية لإدارات نيكسون وفورد، فإنّه لا يمكن إنكار أنه بحلول بداية مسيرته كمستشار للأمن القومي الأمريكي كان كيسنجر هو مَن يضع الإطار الاستراتيجي الذي يمكن من خلاله معالجة التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة وأن كل عنصر من عناصر تلك الاستراتيجية يقوم على المبادئ الأربعة المذكورة هنا.

لقد تكونت استراتيجية كيسنجر التي وضعها في منتصف ستينيات القرن المنصرم من ثلاثة عناصر متميزة. العنصر الأول: سعى كسينجر لإحياء التحالف الأطلسي مع أوروبا الغربية. ولمواجهة القوى المتعمقة للتكامل الأوروبي الغربي وعلاقات التقارب في غرب ألمانيا، حاول إنعاش العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الثلاث الكبرى: فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة. العنصر الثاني: سعى إلى تفسير مفهوم الوفاق في العلاقات الدولية من خلال السعي وراء فرص التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، على الأقل في الحد من الأسلحة الاستراتيجية، دون الابتعاد عن المبدأ الأساسي وهو أنّه يجب مقاومة التوسع السوفيتي واحتواء السلطة السوفيتية. أما العنصر الثالث والأهم فهو أنّه بدأ في توضيح أنه على الرغم من طابعها الثوري الواضح؛ إلّا أنّ جمهورية الصين الشعبية قد حققت التوازن بين القوى وأنّ العداء بين الصين والاتحاد السوفيتي يمكن استغلاله من خلال الاعتماد على تقارب الولايات المتحدة من المتنافسين. وقد وجد منتقدو كيسنجر بعض الأخطاء في التكتيكات التي استخدمها في تنفيذ هذه الاستراتيجية، ولاسيما في البلدان التي تعتبر ذات أهمية ثانوية. ولم يكونوا قادرين على إنكار أنّه كان هناك مفهوم استراتيجي. واليوم، نحن نرى ثمار سبع سنوات دون مثل هذا المفهوم.

صنّاع السياسة الأمريكان (وليس فقط في الإدارة الحالية) قلّلوا من أهمية التاريخ في الفهم الذاتي للدول. وفي جميع القرارات، فشلوا في فهم مغزى مشكلة التخمين، واستخفوا أحيانًا بمزايا السياسة الاستباقية، واستهانوا في بعض الأحيان بتكاليف التراخي. لقد تجاهلوا الخيارات الصعبة بين الشرور غير المتكافئة، وخلف حجاب الخطب الطنانة مارسوا الواقعية الساخرة التي تفتقر دائمًا إلى الشرعية، سواء في الداخل أو الخارج. نظرًا لهذه الأسباب، تجد الولايات المتحدة نفسها في حالة فوضى استراتيجية كما كانت في نهاية عام 1968. ولذا؛ فهناك حاجة ماسة إلى نهج كيسنجري. ولكنّ واضعي السياسات، وعامة الشعب أيضًا، بحاجة إلى فهم معنى كيسنجر.

التقرير