كانت الاحتجاجات التي انطلقت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 صرخة يأس اللبنانيين من إعلان حكومتهم، آنذاك، عن مزيد من الضرائب، إضافة إلى استحداث ضريبة على استخدام تطبيقات المكالمات الهاتفية عبر الانترنت، وقد استغرق اللبنانيون فترة طويلة ليكتشفوا أن هذه الاحتجاجات قد كشفت عن أن البلد مفلس فعليّا وسائر إلى الانهيار.
بدلا من التعاطي مع هذه الكارثة الكبرى فإن النخب السياسية اللبنانية قرّرت خوض معركة الحفاظ على السلطات والمقامرة بمصير البلاد، وكانت النتيجة هي نشوء حكومة حرب أهليّة مستترة يرأسها حسّان دياب، ويقودها من وراء الكواليس «حزب الله» اللبناني، و«التيار الوطني اللبناني»، عبر جبران باسيل، صهر الرئيس اللبناني ميشال عون، وأحد أكثر الأشخاص الذين توجّهت إليهم شتائم اللبنانيين خلال الحراك.
كان طبيعيا مع هذه الحكومة الانتحارية أن تفشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فهي لم تكن قادرة على فهم رسائل الصندوق إليها، أو تطبيقها، وتقدّمت بخطة لا يمكن الموافقة عليها، وكانت النتيجة الطبيعية هي امتناع الجهة المالية الدولية الكبرى عن إعطاء هذه الحكومة أموالا جديدة لتطبيق أجندة سياسية مناهضة للمنظومة الدولية، وكان لفرنسا، الدولة التي يعطيها بعض اللبنانيين مصداقية أكبر من حجمها العالمي، دور في إطالة هذا السيناريو، لكنّها، في النهاية، أدركت أن لا حيّز لديها للتلاعب بين جهتين متناقضتين.
وفيما كانت نار الأسعار تشتعل باللبنانيين، انشغل أطراف اللعبة السياسية اللبنانية، وخصوصا المحسوبين على الرئيس اللبناني، بالخلاف على تقاسم المناصب والتعيينات، وكانت الدول العربية، التي يتطلّع إليها السياسيون اللبنانيون، وأنصارهم، تنكفئ بدورها، فالوضع في لبنان تجاوز المأزق إلى الكارثة، وما عاد بقدرة دولة عربية بعينها موازنة المعادلة المكسورة، فأغلب هذه الدول غارق في ملفّات شائكة عسكريا وأمنيا وسياسيا.
أما النظام السوري، الذي كان بيضة القبّان لحقب طويلة من تاريخ البلدين، والمسؤول عن جزء كبير من الكارثة اللبنانية، فقد تابع الضغط على حكومة حليفة له، مغلقا الحدود بوجهها، ورافعا الرسوم الجمركية على مرور شاحناتها، ومحمّلا إياها جزءا كبيرا من خسائر قانون «قيصر»، وزاد الطين بلّة إفلاته بعض المحسوبين عليه لإعلان نعي الحكومة قبل غيره، وحين أدرك رعاة الحكومة، وعلى رأسهم جبران باسيل، أن رهانها كان خاسرا، بدأ بإعلان مزاد علني لبيعها.
هل سنرى، وقد استبد الجوع باللبنانيين، وبدأوا باستدانة الخبز، وبمقايضة الأغراض المنزلية بالحليب، واتجهت البلاد إلى جرف عال، تغييرا في طريقة إدارة النخب السياسية اللبنانية لبلادها، واعترافا بمسؤوليتها الإجرامية عن هذا الانهيار الهائل، أم سنسمع مجددا أحاديث دياب عن «جهات خارجية» و«انقلاب».
على الأغلب أننا لن نرى أبدا اعترافا بالمسؤوليات، أو ابتعادا عن اقتسام المغانم، في الوقت الذي يغرق فيه البلد في هاوية من دون قرار.
القدس العربي