يهلّل رهطٌ واسعٌ من المعارضة السورية لبدء سريان قانون قيصر، باعتباره انتصاراً؛ فهو خطوة مؤثرة، من بوابة زيادة الضغوط الاقتصادية على النظام، وعزله كلية بفرض عقوباتٍ على الأشخاص والشركات المتعاملة معه، على الرغم من أن القانون بنصوصه، وبتصريحات المبعوث الأميركي جيمس جيفري، ومسؤولي الخارجية الأميركية، لا يقول بتنحّي بشار الأسد عن الحكم. وأما رحيل عائلة الأسد عن الحكم، وبغض النظر عن بدء سريان قانون قيصر، فقد بات يقيناً، لمعارضيه، ولداعمه الروسي، ولقاعدته الشعبية، وقد دلل عليه التفكك ضمن العائلة الحاكمة، وما نتج عنه من فضائح، ومن انهيار كبير لليرة السورية رافق أزمة المصارف اللبنانية، مع فشله في إدارة الأزمة الاقتصادية، ووصول الفساد البيروقراطي في حكومته إلى أقصاه، وتجدُّد المظاهرات المطالبة برحيله. ولكن السؤال الأهم: لماذا أصدر الأميركان قانونا كهذا، بعنوانه العريض “قانون حماية المدنيين”، بعد تسع سنوات من المجازر المتواصلة؟
لم يهتمّ الأميركيُّون يوماً بوقف المجزرة السورية، على الرغم من تصريحاتهم المندّدة بها
لم يهتمّ الأميركيُّون يوماً بوقف المجزرة السورية، على الرغم من تصريحاتهم المندّدة بها؛ فالاستراتيجية الأميركية منذ عهد الرئيس السابق، أوباما، باتت مبنية على تقليص حجم التدخل في الشرق الأوسط، والتركيز على القواعد العسكرية في منطقة المحيط الهادئ، حيث العدو الأكبر (الصين). بناء على ذلك، اتفق الأميركان والروس في جنيف 1، في العام 2012، على أن سورية منطقة نفوذ لروسيا، وما زالوا يعترفون بذلك، وبأن الوجود الروسي شرعي في سورية؛ وبالتالي كان الفيتو الروسي – الصيني على مشاريع إدانة النظام، المتكرّرة في مجلس الأمن، مسرحياتٍ يرضى عنها الأميركيون ضمناً، وكذلك يرضون عن التدخل العسكري الروسي في خريف 2015، وعن تحالف أستانة، وما تلاه من هدن ومصالحات وسيطرة على مناطق واسعة، بعد تعهد روسيا بإجبار النظام على تسليم أسلحته الكيميائية، عقب تهديد أوباما بتوجيه ضربةٍ عسكرية للنظام. وهذا يعني أن روسيا هي المتحكّم الرئيسي بالحل السوري؛ ولكن لواشنطن شروطاً على موسكو تحقيقها، وهي تملك أوراق ضغط تمكّنها من تعطيل الحل الروسي المنفرد، تتعلق باستمرار الوجود الأميركي في شرق الفرات، بحجة مواجهة إيران والإرهاب، ولمنع النظام وروسيا من الاستفادة من الثروات النفطية والزراعية، وتعطيل سيطرة موسكو على الطرق الرئيسية هناك، والآن يأتي قانون قيصر ورقة إضافية حاسمة بيد واشنطن. و”قيصر” قانون هجين، كونه كان نتاج صراع داخل الإدارة الأميركية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بسبب الخلاف المستمر بشان الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وشارك فيه، من جهة أخرى، السوريون الأميركيون، الذين كان لهم الفضل في توصيله إلى الكونغرس بعد ست سنوات من تقديم صور قيصر. وفي كل الأحوال، صيغ القانون بأقلام أميركية، وهو يجيَّر ليكون أداة حاسمة بيد واشنطن، وضدّ الحل الروسي المنفرد.
بقانون قيصر، تفرض واشنطن على موسكو عدة مطالب: أهمّها إيقاف محاولات التطبيع مع النظام وإعادة الإعمار من دون حل سياسي
بقانون قيصر، تفرض واشنطن على موسكو عدة مطالب: أهمّها إيقاف محاولات التطبيع مع النظام وإعادة الإعمار من دون حل سياسي، عبر فرض عقوبات على كل من يتعامل مع النظام، ليس في المسائل العسكرية، بل وفي مجالات التكنولوجيا والبناء. وشملت الدفعة الأولى من العقوبات شركات بناء؛ وبالتالي واشنطن تريد زيادة عزلة النظام وشلّه اقتصادياً، وإجبار موسكو على البحث عن مخرج. وبقيصر، تفرض واشنطن وقفاً دائماً لإطلاق النار، ما يعني تثبيت مناطق النفوذ، ووضع حدّ للطموحات الروسية في السيطرة على كامل إدلب، أو محاولة شن هجوم على حلفاء واشنطن في شرق الفرات، وهذا يعني اعتراف واشنطن بدور تركي في شمال سورية، وهو الحل الأميركي الممكن لإشكالية تهدئة المخاوف الأمنية التركية من الخطر الكردي، وهي محاولة أميركية لتخفيف قوة التحالف التركي الروسي. ولا تصادر واشنطن، بهذه الشروط، أحقية موسكو بوضع حل سياسي، فهي تعترف بدور اللجنة الدستورية التي ترعاها روسيا، وتشترط إطلاق سراح المعتقلين، والبدء بحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، ولكنها أيضاً تشترط تقليص الوجود الإيراني، واستمرار التعاون لمحاربة الإرهابيين. ولإزالة العقوبات، هي تضع شرطاً على الحكومات القادمة يتعلق بمحاسبة مرتكبي الجرائم، وبعلاقات “سلمية مع الجوار”. وأما المحاسبة فيمكن لروسيا إخراج محاكمات شكلية ترضي واشنطن، غير المهتمة فعلياً بتحقيق العدالة في سورية. وأما الشرط الآخر فيفرض على الحكومات القادمة التطبيع العلني مع إسرائيل، والاعتراف بضم الجولان وبصفقة القرن.
إذاً، الكرة بملعب روسيا، ومساحات المناورة بالنسبة إليها ضيقة؛ أولويتها الآن السيطرة الكلية على النظام الذي ما زال يتقوى بالإيرانيين؛ لذلك غيّر بوتين صفة سفيره في دمشق إلى مبعوث رئاسي، أي بمثابة مندوب سامٍ يحكم دمشق، وتعمّدت الصحف الروسية شبه الرسمية انتقاد الأسد، والقول إنه فاسد وغير شرعي، وهي تستغل مظاهرات السويداء، والاحتقان الشعبي المستجد بعد خلاف الأسد مخلوف، وبعد الانهيار الاقتصادي الدراماتيكي الذي رافقه، وذلك لإضعاف الأسد وإظهاره بلا مؤيدين، ويبدو أنه بدأ يرضخ، حيث أصدر أخيرا قرار عفو خاص عن معتقلين من درعا.
تريد روسيا الاستفادة من عقود الاستثمار الموقّعة مع النظام، خصوصا ما يتعلق بالموانئ والمطارات والفوسفات والغاز، ومن مجمل عملية تمويل إعادة الإعمار
ما تريده روسيا من سورية هو الاستفادة من عقود الاستثمار الموقّعة مع النظام، خصوصا ما يتعلق بالموانئ والمطارات والفوسفات والغاز، ومن مجمل عملية تمويل إعادة الإعمار. وهذا يتطلب أمرين، الأول أن تكون هي راعية التغيير القادم بما يناسب ضمان مصالحها، هذا ما دفعها إلى التواصل مجدّداً مع أطياف متعدّدة من المعارضة السورية. والأميركيون لا يمانعون هذا التحرّك الروسي، ولم تكن حزمة العقوبات الأولى من قانون قيصر على نخب سورية في الحكم، من بينها الأسد وشقيقه وزوجتاهما، ذات أثر فعلي، بقدر ما هي إنذار إلى روسيا والنظام بعدم التأخر في تلبية المطالب الأميركية. الثاني البدء بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والسماح بتدفق الأموال إلى سورية، وهذا مرتبط بالحل السياسي الممسوك أميركياً، وإسرائيلياً أيضاً.
ربما ستكون هناك قضية إشكالية أمام أي تسوية، وهي معضلةُ الاستفادة الروسية من الثروات السورية التي تسيطر عليها أميركا في شرق الفرات. وهذا إذا حصل، فسيشمل قضايا خارج سورية، ربما في أوكرانيا مثلاً.
رانيا مصطفى
العربي الجديد