ليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها تنظيم داعش الإرهابي بشن حملة إبادة جماعية لتجمع سكاني بعينه. فما شهدته مدينة سرت الليبية من حملة إبادة استهدفت بحسب بعض التقديرات مائة وخمسين شخصا، سبق أن تم في العراق وسوريا. إذ بحسب ما أدلى به السيد فاضل الغراوي عضو مفوضية حقوق الإنسان، قام التنظيم باستهداف المناطق الشيعية منذ دخوله إلى الموصل بقصد الإبادة “الجماعية الممنهجة” للشيعة في العراق. وتمثل ذلك في زرع آلاف المفخخات والعبوات الناسفة، واستهداف المدنيين والأطفال والنساء والأشخاص ذوي الإعاقة. بل وبرز الاستهداف بشكل أكبر في مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها ما يقدر بعدد 1734 شهيدا من الجنود الشيعة، وهو ما تكرر برأيه في سجن بادوش حيث جرت تصفية 623 سجينا على أسس طائفية. كذلك ما حصل في قرية بشير التركمانية، التي شهدت قتل أكثر من 67 شهيدا واغتصاب 15 امرأة وتعليقهن في أعمدة الكهرباء ودفن الآخرين في مقابر جماعية لكونهم من الشيعة التركمان. علاوة على قيام التنظيم بتهجير أكثر من 500 ألف شخص من الشيعة في مناطق عديدة. بل إن أغلب العمليات الإرهابية والتفجيرات بالسيارات المفخخة استهدفت مناطق ذات غالبية شيعية مثل مدينة الصدر والكاظمية والحرية والكرادة. وأفاد بأن أحد فصول استهداف الشيعة تمثل بـ”التفجير الإرهابي في منطقة خان بني سعد”. ولا شك أن ما قام به التنظيم كان قد سبق أن جربه مرات عديدة داخل سرت نفسها، ولعل أكثر العمليات صيتا ما قام به بشأن المواطنين المصريين، على أساس ديني، حين استهدف ذبح مسيحيين مصريين، يقطنون إحدى مناطق مدينة سرت، تحت دعوى ونزاع طائفي صرف، وهو ما أسفر عن قيام القوات المصرية والليبية التدخل بضرب مناطق بعينها داخل ليبيا بالطيران. أولا- الوضع في سرت إن الوضع في هذه المدينة الساحلية هو الأكثر مأساوية. وإن هذه الحملة التي قام بها التنظيم هي ردة فعل شرسة على استهداف قام به الجيش الليبي. فما كان من التنظيم سوى الرد بضرب أبناء قبيلة الفرجان. ومن المعروف أن هذه القبيلة من أكثر القبائل تعاونا مع الجيش الليبي فهي تمده بالمعلومات التي يحتاج إليها، سواء بمواقع التمركز، أو أماكن الذخيرة، أو المشاركة في القتال. والواقع أن التنظيم تتفاوت شراسته بحسب موقعه على الأرض. أي أن حجم رد الفعل يتناسب مع القدرات التي يمتلكها على الأرض. ففي الحالة المصرية، تمارس بعض القبائل السيناوية عملا نضاليا مساندا للجيش، عبر مده بالمعلومات اللازمة، فما يكون رد فعل التنظيم سوى اغتيال العناصر القيادية بالقبيلة، أو القيام بحرق منازلها، كما حدث مع أحدث شيوخ القبائل الذي أُحرق بيته. وكما حدث مع إحدى المرشدات التي تعرضت للقتل. علاوة على ذلك، فإن العناصر المكونة للتنظيم تحدد قدر رد الفعل ومداه أيضا. ففي الحالة الليبية، يزداد حجم تأثير العناصر الأجنبية غير الليبية، مما يدفع للقول بانقطاع التنظيم عن العلاقات الاجتماعية بينه وبين المجتمع الليبي، ما ييسر القيام بعملية الإبادة، دون التقيد باستهداف العناصر المتعاونة مع الجيش. لقد نفذ مسلحو التنظيم عملية تصفية جسدية لاثنين وعشرين جريحًا كانوا يتلقون العلاج فى المركز الصحى فى الحى الثالث بالمدينة. وذكرت مصادر محلية أن عدد القتلى من المدنيين أكثر من ثلاثين شهيدا، غالبيتهم من قبيلة الفرجان، ومن ضمنهم أول امرأة ليبية مقاتلة تسقط شهيدة على أيدى عناصر التنظيم، إضافة لجرح العشرات من الشباب والنساء والأطفال فى أشرس عملية عسكرية يقوم بها التنظيم الإرهابي على المدينة. إن التنظيم لا يكتفي فقط بأعمال القتل العشوائي، بل ويقوم باقتحام وتفتيش منازل المنطقة الثالثة في المدينة ويطارد شبابها. ولا يتورع عن القيام بذبح شباب من مدينة سرت في ساحة مسجد قرطبة، والقيام بنبش قبر من القبور وإخراج جثة صاحبه وإحراقها. لقد توافد التنظيم على المدينة لاتخاذها قاعدة انطلاق لعملياته بعد سيطرته عليها منذ عامين، في ظل صمت الدول الغربية. بل إن الجماعات الإرهابية في الدول الأفريقية انضمت لعناصر التنظيم الإرهابي في سرت، حيث إن العديد من العناصر الأجنبية من مختلف دول العالم تتوافد على مدينة سرت للقتال بجوار التنظيم الإرهابي. أعلنت الحكومة الليبية عجزها عن التصدي للجماعات المسلحة المتشددة بسبب حظر توريد السلاح عن الجيش، متهمةً المجتمع الدولي بالتخاذل والصمت تجاه أعمال داعش ثانيا- موقف الحكومة الليبية فيما ناشدت الحكومة الليبية المؤقتة الدول العربية للتدخل الفورى بتوجيه ضربات جوية محددة لتنظيم داعش في سرت في إطار اتفاقية الدفاع المشترك. وطالبت الدول العربية، تطبيقا لقرارات الجامعة العربية بشأن اتفاقيات الدفاع العربي، المشترك توجيه ضربات جوية محددة الأهداف لأماكن تمركز تنظيم داعش بمدينة سرت بالتنسيق مع الجهات الحكومية المعنية. وأعلنت الحكومة الليبية عجزها عن التصدي للجماعات المسلحة المتشددة بسبب حظر توريد السلاح عن الجيش، متهمةً المجتمع الدولي بالتخاذل والصمت المريب تجاه أعمال داعش في ليبيا، كما جددت الحكومة مطالبتها الدول الصديقة والحليفة بممارسة مزيد من الضغوط على مجلس الأمن الدولي لرفع الحظر توريد السلاح عن الجيش في ظل خوضه معركة شرسة ضد الإرهاب. وقد قامت الخارجية الليبية ببعث رسالة للأمين العام للأمم المتحدة وإرسال وزير الخارجية والتعاون الدولي بالحكومة الليبية المؤقتة، محمد الدايري، برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، يكشف له ما يتعرض له سكان مدينة سرت من إبادة جماعية من قبل تنظيم “داعش” الإرهابي. وأشارت رسالة الدايري إلى الفقرة (7) من قرار مجلس الأمن 2214 (2015)، الذي يدعو اللجنة المنشأة عملًا بالفقرة (24) من القرار 1970 (2011)، إلى النظر بسرعة في الطلبات المُقدمة بموجب الفقرة (8) من القرار 2174 (2014) لنقل وتوريد الأسلحة وما يتصل بها من عتاد، بما في ذلك الذخائر وقطع الغيار المُتعلقة بها، إلى الحكومة الليبية من أجل أن تستخدمها قواتها المسلحة الرسمية في محاربة تنظيم “داعش” والجماعات التي تدين له بالولاء وتنظيم أنصار الشريعة وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطة بالتنظيم والتي تنشط في ليبيا. وأعرب وزير خارجية ليبيا عن تطلعه إلى بذل الجهود البناءة لمُساعدة أبناء الشعب الليبي المُحاصرين من قبل تنظيم “داعش” الإرهابي. كما طلبت الحكومة الليبية عقد اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية على وجه السرعة لبحث المذابح التي يقوم بها تنظيم داعش الإرهابي في سرت مع المدنيين الذين يتعرضون لمذابح جماعية فظيعة. أن الصراع داخل ليبيا لا يقتصر على داعش، بل هناك قوى أخرى مسلحة. مما يجعل من الصعوبة بمكان بناء استقرار حقيقي بدون نزع السلاح، وتأمين الحدود ثالثا- ردود فعل الصحف الدولية: توثيق مهم ودلالات أخرى إن الصورة الإعلامية تتغير ملامحها بالاطلاع على رؤية الصحافة العالمية. إذ تحيط الأمر بتفاصيل مهمة تتعلق بطبيعة الصراعات الماثلة على الأرض، وطبيعة الفاعلين المنخرطين في القتال من خارج الدولة. حيث تناولت الصحافة العالمية الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة سرت بين تنظيم “داعش” وعدد من التشكيلات المسلحة في المدينة التي رفضت إعلان تبعيتها له، وذكرت أن سببها “رغبة التنظيم في قمع ثورة التشكيلات المحلية ضده”. حيث جاء في تقرير لوكالة “أسوشيتد برس”، نقلته الواشنطن بوست، أن اشتباكات وقعت بين مقاتلي داعش وبين جماعات إسلامية منافسة لها في مدينة سرت، أسفرت عن مقتل أكثر من تسعة وأربعين شخصًا، وأشارت إلى تضارب التصريحات الرسمية بشأن أعداد القتلى. وذكر التقرير أن «داعش» تعمّد قصف الأحياء ومنازل معارضيه، ودعا سكان المدينة العاملين في أجهزة الشرطة والقضاء والقطاع المصرفي إعلان الولاء للتنظيم أو القتل. وفي المقابل، رفضت الجماعات الإسلامية بالمدينة إعلان ولائها ودعت السكان للثورة، مما أشعل المواجهات. فيما تحدد جريدة “دويتشه فيله” بداية المجزرة مع الاشتباكات التي نشبت مع إعلان الحكومة في طرابلس بدء عملية عسكرية لاستعادة المدينة من “داعش”، ونقلت الجريدة عن مسئول بالمجلس المحلي أن المدينة شهدت حربا طاحنة بين التنظيم والسكان. فقد بدأت الاشتباكات عقب مقتل إمام تابع لقبيلة الفرجان، وهو خالد بن رجب لرفضه إعلان ولائه للتنظيم، وردت القبيلة بحث السكان على الثورة، وقتلت قائدين في التنظيم هما السعودي أبو حذيفة والمصري أبو همام المصري. وهكذا تحدد لنا الصحافة العالمية طبيعة ما يجري من صراع بين القوى الإسلامية الرافضة والمعارضة لوجود التنظيم. ومع ذلك تريد هذه الصحافة أن تتخلى عن أي وصف للحديث عن مقاومة وطنية ليبية، أو الحديث عن صمت المجتمع الدولي، أو عن ضرورة التدخل لمساندة حركة المقاومة الشعبية. رابعا- دلالات أساسية إن هذه الواقعة التي لا تبدو عابرة لكنها جزء من سلسلة إبادات جماعية يقوم بها التنظيم في أنحاء متنوعة في الوطن العربي. ولكن هذه الحالة لها وقعها الخاص لأنها ليست على أساس طائفي. والواقع يبدو أن الجسد العربي يتمزق، في هذه الحرب الضروس على الهوية، في ظل غياب الدولة، وكسر شوكة الجيوش الوطنية، وطعنها من الخلف. فما يجري في ليبيا هو سياسة ممنهجة لتفريغ الساحة أمام التدخل الدولي الدائم، والحيلولة دون تحقق الثورة، التي لن تؤذي الأنظمة العربية المحافظة، لكنها تكسر عظام النظام الرأسمالي ككل. هذا من ناحية، ومن جهة أخرى، يبدو أن ترك الأوضاع على هذا النحو من الفوضى هو جزء من تفكيك الأوضاع في مصر، بترك مصدر تهديد للنظام المصري، حتى يتسنى تدجينه مستقبلا، وترويض أي مساعي لديه للخروج من أسر التبعية الأمريكية، أو أي احتمال لقيام ثورة بالداخل، حيث إن القوى المتطرفة تحيط بالبلاد من كل جانب، مما يضعف من ميزان قوة الثوار، حتى لو تحالف النظام الحاكم أو الثوار المحتملين مع أكبر جماعات الإسلام السياسي التي لم تعد في الراهن، بل وربما سلفا موضع تقدير الجماعات السلفية المتطرفة. الدلالة الثالثة أن الشأن العربي غير محكوم سوى بمتطلبات الصراع الطائفي، بدليل أن مناداة الحكومة الليبية لم يتم الاستجابة لها للحظة. إذ كان المأمول أن يتم توجيه ضربات بالطيران الحربي لمواقع سيطرة داعش بليبيا، بينما لم يتم الالتفات للمطلب الليبي، وغلب عليه المطلب السعودي بحماية وضعيتها القوية داخل الخليج. بينما تأجل الطلب الليبي طيلة أربع سنوات متتالية احتلت فيها داعش مدينة سرت، ونفذت فيها أسوأ عملياتها على الإطلاق. وعلى مستوى محلي، يبدو أن الصراع داخل ليبيا لا يقتصر على وجود تهديد داعش للدولة الوطنية، بل هناك قوى أخرى مسلحة. مما يجعل من الصعوبة بمكان بناء استقرار حقيقي بدون نزع السلاح، وتأمين الحدود، الأمر الذي يحتم منح الجيش حق الحصول على الأسلحة اللازمة للمواجهة. ومن جهة أخرى يمثل الرد الوحشي على تعاون القبائل مع الجيش رعب التنظيم وهلعه من محاولات الجيش بناء جسور الثقة بينه وبين القبائل، وهو يفعل ذلك تخوفا من تشكل قوى شعبية مقاومة، قد تكرر الانتصارات التي تحققت مع نظيرتها في العراق واليمن. فوجود قوى شعبية مسلحة متعاونة عسكريا بالمعلومات، والمشاركة بالقتال، هو خطر حقيقي أمام التنظيم يهدد وجوده، وقد يتسبب في انهياره، وانزوائه تدريجيا.
د. محمود أحمد عبد اللـه
المركز العربي للبحوث والدراسات