جريمة اغتيال الباحث والمحلل السياسي العراقي هشام الهاشمي الأخيرة تعيد التذكير بأن مسلسل الاغتيالات، الذي أودى بحياة العديد من نشطاء الحراك الشعبي والإعلاميين والكتّاب، لا يتوقف إلا لكي يُستأنف مجدداً ما دامت الأجهزة الأمنية والقضائية تواصل فشلها في تفكيك الشبكات والقوى التي تقف خلف هذه العمليات، وعجزها عن إلقاء القبض على الجناة وأدوات التنفيذ.
ومن الواضح أن الهاشمي دفع أخيراً ثمن أنشطته الإعلامية والبحثية التي أسهمت بشجاعة في تسليط الأضواء على تلك الشبكات، وفي فضح خضوع الدولة العراقية ومعظم أجهزتها السياسية والأمنية لابتزاز الميليشيات والمجموعات المسلحة التي تأتمر بدولة عسكرية ومذهبية عميقة فوق الدولة. وكان الهاشمي قد أوضح مراراً أنه تلقى تهديدات مباشرة من ممثلي تلك الشبكات، ولم يكن بعض تلك الرسائل خفياً أو مبطناً بل اتخذ صفة واضحة ومعلنة، على غرار رسالة التهديد بالقتل التي وُجهت عبر الإنترنت إلى الهاشمي و13 شخصية عراقية في أيلول/ سبتمبر الماضي.
وطوال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي كان الهاشمي قد أعلن امتناعه عن التعليق على الأحداث العراقية واعتذاره عن الظهور على الفضائيات بسبب جدية التهديدات التي كان قد تلقاها، خصوصاً وأن رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي لم يكن حينذاك راغباً في الحدّ من أنشطة المجموعات المسلحة، والفصائل الشيعية الموالية لإيران بصفة خاصة. وفي الآن ذاته كانت مواقف الهاشمي صريحة تماماً لجهة تأييد الانتفاضة الشعبية، والمطالبة بالحدّ من النفوذ الإيراني في العراق.
والسياقات المحتملة خلف قرار تصفية الهاشمي تشير على الأرجح إلى صلة وثيقة مع المعلومات التي دأب على كشفها بصدد ما عُرف بـ«خلية الكاتيوشا»، نسبة إلى إحدى مجموعات «كتائب حزب الله» العراقي التي كانت تتجهز لتنفيذ عمليات قصف في المنطقة الخضراء وداهمتها القوى الأمنية العراقية بأمر من رئيس الوزراء الجديد الكاظمي، أواخر حزيران/ يونيو الماضي. ولم يعد خافياً أن نجاح الهاشمي في كشف الهوية الحقيقية لشخصية الناطق باسم الكتائب أوغر صدور قيادات المجموعة، ولعل اغتيال الهاشمي كان بمثابة رسالة إنذار إلى الكاظمي شخصياً بخصوص سياساته حول حصر السلاح بيد الدولة.
وصحيح بالطبع أن الهاشمي كان خبيراً بالإسلام السياسي عموماً وبالجماعات الجهادية والفصائل المسلحة السنّية والشيعية على حد سواء، وأنه قد يكون استعدى الكثير منها بسبب مواقفه وتحليلاته وكتاباته، ولكن من الصحيح أيضاً أن «تنظيم الدولة» قد انحسر عملياً في العراق إذا لم يكن قد هُزم فعلياً في مناطق عديدة، وبالتالي فإن القوى الأقدر على تنظيم عمليات اغتيال احترافية في قلب العاصمة العراقية هي فصائل على غرار «كتائب حزب الله» التي يُشار إليها بأصابع الاتهام في اغتيالات سابقة.
ولهذا فإن ترويج بيان منسوب إلى «تنظيم الدولة» يتبنى عملية الاغتيال، يبدو محاولة مفضوحة للتعمية على جهة الاغتيال الفعلية، وهي المتضررة أكثر من مواقف الهاشمي وآخر تغريداته حول أنشطة الفصائل الشيعية المسلحة في المنطقة الخضراء تحديداً، وكذلك رفض التبعية إلى إيران، والتشديد على مساندة الانتفاضة الشعبية، وانتقاد «الأحزاب الدينية التي استبدلت التنافس الحزبي بالطائفي». ولهذا فإن الاغتيال، مثل محاولات التغطية عليه، ليس سوى الوجهة المكشوفة لمأزق شامل تعيشه الفصائل المسلحة، حيث أن القادم قد يكون أعظم.
القدس العربي