تُعتبر فرنسا من أهم الفواعل الدولية في المشهد الليبي منذ ثورة 16 فبراير/ شباط 2011، ضد نظام حكم العقيد معمر القذافي، لما لها من نفوذ، وهي التي قادت عمليات التدخل التي شنها حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإسقاط القذافي في مارس/ آذار 2011، وبعد أقل من شهر تقريباً على قيام الثورة الليبية، ومع تمدّد الدور الفرنسي خلال السنوات التسع الماضية، إلى درجة تعارض هذا الدور مع دول أعضاء في حلف الناتو، مثل إيطاليا وتالياً تركيا، تأتي أهمية الوقوف على خريطة الأهداف الاستراتيجية للسياسة الفرنسية في القضية الليبية. وهنا يمكن التمييز بين ثلاثة مستويات أساسية، لتوضيح أركان هذه الخريطة:
الأهداف والمصالح الاقتصادية
يمكن في إطار هذه الأهداف وتلك المصالح التمييز بين:
أولاً، النفط والغاز الليبي: ليبيا هي الدولة الخامسة عربياً من حيث احتياطيات النفط، وفق التقارير الدورية الصادرة عن منظمة أوبك، ويصل حجم احتياطيها إلى حوالي 50 مليار برميل، كما كشفت التقديرات عن وجود نحو 1.5 تريليون متر مكعب احتياطي من الغاز الطبيعي.
ولا تقف الأهداف الفرنسية في النفط والغاز الليبي عند الحصول على النسبة الأعظم من صادرات النفط الليبي، حيث كانت تحصل قبل الثورة على 17% من هذه الصادرات، ارتفعت بعدها إلى نحو 33% منها، وتستهلك المحروقات في فرنسا نحو 99% من واراداتها من النفط الليبي.
ولكن أيضاً، يبرز هدف آخر، وهو الاستثمارات الضخمة للشركات الفرنسية في قطاعي النفط والغاز في ليبيا، فعلى سبيل المثال تستحوذ شركة توتال من حقوق التنقيب عن النفط على 75% من حقل الجرف، 30% من حقل الشرارة، 24% من حقل قاع مرزوق، 16% من حقل الواحة. كما حصلت “توتال” على 16.33% من شركة الواحة، وهي أهم شركة نفطية في ليبيا.
ثانياً، سعي فرنسا نحو أن تكون لها حصة من عمليات إعادة الإعمار التي يمكن أن تشهدها ليبيا بعد استقرار الأوضاع الأمنية فيها، والتي قدّرت الحكومة الفرنسية في عام 2011 أن ليبيا تحتاج نحو 200 مليار دولار لإعادة الإعمار، بينما قدّرتها الحكومة البريطانية بنحو 320 مليار دولار، وهي أرقام تضاعفت بعد عمليات التخريب والتدمير الشامل التي تعرّضت لها الدولة الليبية خلال السنوات التسع الماضية. ويزيد من أهمية هذا الهدف التنافس الفرنسي مع تركيا في مشروعات إعادة الإعمار، وخصوصا أن تركيا لها نحو 18 مليار دولار عالقة في ليبيا، فقد كانت قد وقعت مع نظام القذافي استثمارات مشتركة في البنية التحتية بنحو 24 ملياراً. ومع توتر العلاقات الفرنسية التركية على المسرح الليبي، ستكون فرنسا أكثر حرصاً على تعظيم حصتها في عمليات إعادة الإعمار.
تستحوذ شركة توتال الفرنسية على 75% من حقل الجرف، 30% من حقل الشرارة، 24% من حقل قاع مرزوق، 16% من حقل الواحة، كأهم شركة نفطية في ليبيا
ثالثاً، سعي فرنسا نحو تأمين مصالحها الاقتصادية في دول الساحل والصحراء، والتي تقع على الحدود الجغرافية الليبية، مثل تشاد والنيجر ومالي والجزائر، ففرنسا تسيطر على النسبة الأعظم من عمليات التبادل التجاري مع هذه الدول، كما تهيمن على ثرواتها الطبيعية، مثل اليورانيوم في النيجر والذهب في مالي، بجانب استثماراتها الضخمة في قطاعي النفط والغاز في جنوب الجزائر على الحدود المشتركة بين ليبيا والجزائر.
رابعاً، كذلك كان من أهداف التدخل العسكري المباشر لقوات حلف الناتو في ليبيا في 2011، بقيادة فرنسا، وقف التمدّد الاقتصادي الصيني في منطقة شمال أفريقيا، والساحل والصحراء، وخاصة في قطاع الإنشاءات والصادرات الرخيصة، وكذلك البنى التحتية، والنفط، حيث كانت الصين من أهم الشركاء الاستراتيجيين لنظام القذافي.
الأهداف والمصالح العسكرية والأمنية
يمكن في إطار هذه الأهداف وتلك المصالح التمييز بين:
أولاً، التوسع في إنشاء القواعد العسكرية الفرنسية على الأراضي الليبية، لحماية الثروات النفطية وتأمينها، وتعزيز الأبعاد الأمنية في دولة تتمتع بأطول شواطئ جنوب المتوسط (1850 كم)، وخصوصا أن لفرنسا خبرة تاريخية سابقة في ذلك، من خلال وجودها العسكري في ولاية فزان الليبية من عام 1943 إلى عام 1951، وترى أن لها حقاً تاريخياً، بجانب إيطاليا التي كانت تستعمر ليبيا من 1911 حتى الاستقلال.
من أهداف التدخل العسكري المباشر للناتو في ليبيا، بقيادة فرنسا، وقف التمدّد الاقتصادي الصيني في منطقة شمال أفريقيا، والساحل والصحراء
ويرتبط بهذا الهدف تأمين فرنسا قواعدها العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، حيث توجد لها في دول جوار ليبيا: ثلاث قواعد عسكرية في تشاد، من بينها إنجامينا، وقاعدتان في النيجر، ماداما ونيامي، وقاعدتان في مالي، غاو في الشمال، وتيساليت في الجنوب، بجانب قاعدة للقوات الخاصة الفرنسية في بوركينا فاسو، تضم نحو أربعة آلاف جندي فرنسي، وعشرات الطائرات والمدرعات. وتأتي أهمية هذه القواعد في الحفاظ على الدور والنفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، على خلفية استعمارها التاريخي لمعظم دول القارة، وعملها على استمرار استغلال ثروات هذه الدول ومقدّراتها، والتحكم في نظمها السياسية.
ثانياً، السعي الفرنسي نحو استمرار تدفق سلاحها إلى دول المنطقة، وخصوصا ليبيا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد تعدّدت التقارير الرسمية التي تفيد بأن فرنسا وقعت في عام 2018، على سبيل المثال، صفقات سلاح إلى مصر بقيمة 14.1 مليار يورو، وبقيمة 9.5 مليارات للإمارات، كان الجزء الأعظم منها يتجه إلى مليشيات اللواء المتقاعد المتمرد خليفة حفتر وقواته، عبر بوابة نظام عبد الفتاح السيسي والقواعد العسكرية المصرية في الصحراء الغربية، كما أن فرنسا صدّرت سلاحاً إلى حفتر بشكل مباشر بما قيمته 295 مليون يورو.
ثالثاً، من بين الأهداف الأمنية والعسكرية أيضاً للسياسة الفرنسية في ليبيا، دعم التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي، كما حدث في العام 2013، وكذلك عملية برخان لما تسميه فرنسا مواجهة التمرّد، وانطلقت في أغسطس/ آب 2014، ومقرّها مدينة إنجامينا، عاصمة تشاد، وتشمل خمس دول تعرف باسم (جي 5 الساحل)، تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو، وموريتانيا، ومن أهدافها المعلنة مقاومة الجماعات الجهادية، والجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية.
الأهداف والمصالح السياسية
يمكن في إطار هذه الأهداف وتلك المصالح التمييز بين:
أولا، ما تعتبره فرنسا حقاً لها في دور فاعل في ليبيا، استناداً إلى قيادتها لعمليات حلف الناتو في العام 2011، وتريد الحصول على ثمن دورها في إسقاط القذافي. وقد ذكر وزير الدفاع الفرنسي، جيرار لونجيه، آنذاك، أن بلاده تكلفت 450 مليون دولار، بين يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول 2011، وفي يونيو 2020 يتحدث الرئيس ماكرون عن أضعاف هذا الرقم.
ثانيا، العمل على تولي دور قيادي في السياسة الخارجية الأوروبية، استناداً إلى خبرتها الاستعمارية في شمال أفريقيا. ومن هنا، جاءت المبادرة الفرنسية بشأن ليبيا، والتي جمعت بين رئيس حكومة الوفاق فايز السراج وحفتر في مايو/ أيار 2018، ورؤساء مجلس النواب والمجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا، ولكن إيطاليا رفضت، وهي التي تنافس فرنسا على هذا الدور، مخرجات تلك المبادرة، ونظمت مؤتمر باليرمو حول ليبيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
يسعى ماكرون إلى تشتيت انتباه المواطنين الفرنسيين عن التحدّيات الداخلية، عبر التصعيد مع تركيا على المسرح الليبي
ثالثا، الموقف الفرنسي من تيارات الإسلام السياسي، والعمل على منع بروز دورها في دول شمال أفريقيا وغربها، حتى لو كان صعودها وفق آليات توافقية سلمية، أو وفق أدوات ديمقراطية، كالانتخابات أو غيرها، لأن فرنسا ترى في صعود هذه التيارات واستقرار أوضاعها تهديداً لمصالحها ونفوذها، ولا تنفصل عن هذا الهدف الرغبة الفرنسية في تحجيم النفوذ التركي في المنطقة، والتي ترى فيه داعماً لمثل هذه التيارات.
رابعا، من بين الأهداف السياسية كذلك ما يمكن تسميته تصدير الأزمات إلى الخارج، فالرئيس ماكرون يواجه تحديات وانتقادات عديدة لسياسته الداخلية التي انعكست على نتائج الانتخابات البلدية التي شهدتها فرنسا على جولتين في مارس/ آذار، ويونيو/ حزيران 2020، وكشفت عن نجاحات كبيرة لحزب الخضر الفرنسي وحلفائه من اليسار على حساب حزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي يقوده ماكرون. ولذا يسعى ماكرون إلى تشتيت انتباه المواطنين الفرنسيين عن التحدّيات الداخلية، عبر التصعيد مع تركيا على المسرح الليبي.
المتغير الأميركي ليس فقط في حلف الناتو، أو التأثير على دول الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً من خلال القوات والقواعد الأميركية في المنطقة، والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة
وفي إطار هذه الخريطة من المصالح الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية والاستراتيجية، يمكن القول إن من الصعوبة بمكان أن تتراجع فرنسا في ليبيا، حتى لو دفعها ذلك إلى التنسيق مع روسيا الاتحادية، على حساب علاقتها بحلفائها في حلف الناتو، إلا إذا كان للولايات المتحدة رأي آخر من شأنه إعادة الأمور إلى نصابها داخل منظومة “الناتو” في مواجهة التهديد الروسي المتنامي في شرق المتوسط وجنوبه. إلا أن الدور الفرنسي في الملف الليبي محكومٌ باعتبارات أساسية، يمكن أن تشكل عائقاً كبيراً للطموحات الفرنسية، حال عدم التعاطي مع هذه الاعتبارات بكفاءة وفاعلية، أولها الصورة الذهنية السلبية لفرنسا في ليبيا ودول المغرب العربي، وكذلك في الغرب الأفريقي ودول الساحل والصحراء، نتيجة خلفيتها الاستعمارية وسياساتها التخريبية في هذه الدول. ويمكن أن تفرز هذه الصورة أعمالا انتقامية عديدة ضد المصالح الفرنسية، ليس فقط في هذه الدول، ولكنها قد تمتد إلى الداخل الفرنسي في شكل عمليات إرهابية أو عنفية، وفرنسا لديها سوابق في ذلك.
قوى أوروبية متحفظة، بل ورافضة توجهات فرنسا، وفي مقدمتها إيطاليا التي لا تقل أهدافها في ليبيا أهمية عن الأهداف الفرنسية
ثاني هذه الاعتبارات، المتغير الأميركي ليس فقط في حلف الناتو، أو التأثير على دول الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا، ولكن أيضاً من خلال القوات الأميركية والقواعد الأميركية في المنطقة، والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، والتي تتعارض، في أحيان كثيرة، مع المصالح الفرنسية، ودليل ذلك الدور المتنامي لقوات الأفريكوم، في شمال أفريقيا وحوض المتوسط، بعيداً عن مظلة “الناتو”.
وثالث هذه الاعتبارات، وجود وقوى أوروبية متحفظة، بل ورافضة للتوجهات الفرنسية في ليبيا، وفي مقدمتها إيطاليا التي لا تقل أهدافها في ليبيا أهمية عن الأهداف الفرنسية، بل ترى أنها صاحبة حقوق تاريخية في الأراضي الليبية، على خلفية استعمارها لليبيا من العام 1911 وحتى العام 1943، وترتبط مع ليبيا بمصالح استراتيجية عديدة، بل وشعبية أيضا، وهو ما يمكن أن يشكل عائقاً للطموحات الفرنسية في الانفراد بالملف الليبي والهيمنة عليه.
عصام عبدالشافي
العربي الجديد