في الحادي عشر من شهر حزيران / يونيو أطلقت كل من الولايات المتحدة والعراق رسميا الحوار الاستراتيجي الثنائي باعتباره فرصة لإصلاح العلاقات بين البلدين في ظل الحكومة العراقية المشكلة حديثاً. وفى حين كانت الفصائل المسلحة المدعومة إيرانياً تأمل في أن تسفر الجولة الأولى من الحوار عن نتائج دراماتيكية في مواجهة مستقبل الوجود الأمريكي في المنطقة، إلا أن تلك الجولة لا تعدو كونها بروتوكولية تؤسس للحوار الاستراتيجي المقبل. وتعد عملية وضع أسس للمفاوضات المقبلة خطوة أولى ضرورية، ومع ذلك، إذا كان الطرفان يعتزمان إجراء حوار ناجع، فيجب على كل منهما تعديل مواقفه تجاه الآخر. ونظريا، يبقى أن نرى ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قادرة على بدء الاتفاقات المتبادلة والمشاريع التعاونية بينها وبين العراق.
وفى حين تضمن البيان المشترك الذي صدر في ختام الجلسة فقرة “سعي الإدارة الأميركية لتقليص عدد قواتها في العراق”، كمحاولة لإرضاء وتهدئة خواطر الجماعات المسلحة والأحزاب المدعومة من قبل إيران، إلا أن تلك الفقرة تبقى غير ملزمة. وبالطبع، تعكس تلك الصياغة الطبيعة الخلافية للحوار، حيث استبقت القوى المؤيدة لإيران، الحوار قبل بدئه بحملة إعلامية مضادة اعتراضاً على طبيعة المفاوضات وعلى أجندة الحوار. وطالبت تلك القوى بإدراج بند إخراج القوات الأجنبية من العراق في الجولة الأولى من الحوار. ومع ذلك، تشير المحتويات غير المؤثرة التي تضمنها البيان الأولى الذي أصدرته تلك القوى إلى أن حملتهم الإعلامية كانت غير فعالة.
وفى حين لم ترضَ الفصائل المسلحة عن نتائج الجولة الأولى من المحادثات، فمن غير المحتمل أن تتمكن من تصعيد الوضع داخل العراق، وذلك على الرغم من أن الاعتقالات الأخيرة التي طالت شخصيات من كتائب حزب الله والتي قد تزيد من إمكانية حدوث تصعيد. وهناك عدة دلائل تشير إلى تراجع قدرات تلك القوى على أداء مثل هذا الدور، حيث أنها لم تعد تحظى بالغطاء السياسي الذي كانت تتمتع به خلال حكومة عادل عبد المهدي. فتحالف الفتح الذي يتألف من مجموعات مرتبطة بقوات الحشد الشعبي الذي يقوده هادي العامري، بدأ بالتصدع، مع وضوح تباين آراء زعاماته حول أهداف التحالف. ويأتي هذا في سياق أزمة خانقة تمر بها إيران بسبب العقوبات الأميركية التي أدت إلى تدهور الآلة الإعلامية الإيرانية. كما بدأت المنظمات والصحف والمراكز الثقافية التابعة لإيران في العراق في تقليص عدد الموظفين وخفض الإنفاق.
ومع ذلك، وفى حين يشير تنصيب مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، والإحباط الشعبي من النفوذ الإيراني إلى أن قبضة إيران على العراق بدأت تضعف، فإن على الولايات المتحدة أن تدرك أن هذا لا يعني انتصاراً حتمياً. فتاريخيا، لا تستسلم إيران بسهولة، ولا تغير مخططاتها بل تكيّفها وفقا للظروف والأحداث. ونظرا لان الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في العراق هو تحييد نفوذ إيران، فإن قدرة الحكومة العراقية على التأثير على السياسة الأمريكية تنبثق في المقام الأول من دورها في مواجهة التهديد الإيراني. وقد تنظر الحكومة العراقية الحالية إلى هذا الهدف على أنه نقطة ضعف في الموقف الأميركي. وعلى الأرجح فإنها ستستغله كورقة مناورة وعامل ضغط.
وعلى هذا النحو، فبعد انتهاء الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، هناك عدة أسئلة تطرح نفسها، وهي ما الذي يدعو الحكومة العراقية إلى المخاطرة برفض قرار برلماني يقضي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، وإغضاب دولة جارة تربطها معها علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية وتشاركها حدود طويلة؟ وما الذي يدفعها للمغامرة بمواجهة الفصائل المسلحة التي تهدد بانتهاك السلم الأهلي؟
وفى هذا الصدد، ربما يستطيع الديبلوماسيون الأمريكيون الإجابة على تلك الأسئلة واستيعاب الحوافز التي يمكنهم تقديمها للعراق لإنجاح الحوار الاستراتيجي. تلك هي المسألة، فلا يوجد هناك مشروع أميركي واضح المعالم في العراق يمكن بناء جولات الحوار الاستراتيجي القادمة عليه. وقد أدت بعض الرسائل المختلطة من قبل الولايات المتحدة حول وجود قواتها في العراق إلى شعور المواطن العراقي العادي بالإحباط. فمن وجهة نظر عراقية فإن العراق بالنسبة للولايات المتحدة، لا يعدو كونه أرضا لصد إيران. وكل ما عدا ذلك، من حديث عن “مساعدة العراق على معالجة أزماته” أو “وتوفير مستشارين اقتصاديين” لا يتعدى الكلام الدبلوماسي الفضفاض. فالتصريح من حين لأخر عن رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب الكامل من العراق، يعطي انطباعا عن أن الولايات المتحدة ليس لديها اهتمام حقيقي برفاهية الشعب العراقي. ومن ثم، يحب أن تتبنى الولايات المتحدة مشروعا استراتيجيا واضح المعالم يساهم في تحفيز العراقيين على مساعدة الولايات المتحدة في تنفيذ أهدافها في مواجهة النفوذ الإيراني بفاعلية.
وطيلة السنوات العشر الماضية، وباستثناء الدور الذي اضطلعت به في الحرب على الإرهاب، تكشف الوقائع أن الولايات المتحدة الأميركية لم تنفذ أي مشروعات كبيرة في العراق. وسبق للولايات المتحدة أن أعدت مشروعاً للمساعدة في إعادة إعمار العراق قبل الإعلان عن انسحاب قواتها في عام2011، وأنجزت وفقا لذلك عددا من المشروعات الاستثمارية الصغيرة في عدد من المحافظات، مثل بناء ملاعب رياضية ومستوصفات صحية، وتحسين بنى المياه والصرف الصحي. ولم تزل تلك المشاريع تحظى بأثر طيب لدى العراقيين. لكن مشاريع كهذه توقفت تماما إثر سحب القوات قبل عشر سنوات تقريبا.
اظهر البيان المشترك الذي صدر إثر جولة المباحثات الأولى، قدرا جيدا من الواقعية السياسية المطلوبة، لكنه يبقى ضمن الإطار النظري ما لم يترجم إلى مخططات ومشروعات واضحة المعالم. ولتحقيق ذلك، يجب على الحكومة العراقية أن تعي أن تحييد النفوذ الإيراني في العراق لا ينبغي أن يكون هدفا أميركيا فقط، بل أن يكون كذلك هدفاً عراقياً في المقام الأول. كما يجب على العراق أن يدرك أن جزءاً كبيراً من مشكلاته السياسية والاقتصادية والأمنية، سببها النفوذ الإيراني الذي ينبغي فهمه على أساس أنه أيضاً مشكلة عراقية. ومن ناحية أخرى، يجب أن تقدّم الولايات المتحدة مشروعا واقعيا في العراق يترجم الكلام النظري عن “مساعدة العراق في تجاوز أزماته” إلى واقع ملموس، يقنع العراقيين ويسقط حجج الأطراف السياسية الرافضة للشراكة مع الولايات المتحدة.
شكر خلخال
معهد واشنطن