دخلت ليبيا في أعقاب الانتصارات التي حققتها حكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا مؤخرًا مرحلة جديدة؛ حيث أدت هزيمة قوات الجنرال خليفة حفتر في طرابلس وخاصة خسارة الأخير لقاعدة الوطية الاستراتيجية ومدينة ترهونة، وتمركز قوات حكومة الوفاق في محيط مدينة سرت من أجل السيطرة عليها، إلى انتهاء “أزمة البقاء” التي كانت تهدد حكومة الوفاق منذ أبريل/نيسان 2019، وبشَّرت بالانتقال من “مرحلة الأزمة إلى مرحلة التأسيس”(1).
ولعل قدوم الوفد التركي الكبير ومن ثم الإيطالي والأميركي إلى طرابلس يشير إلى رغبة هذه الأطراف في التوصل لتفاهمات مع حكومة الوفاق، وفيما يمكن التوقف عند العديد من النقاط والملاحظات فيما يتعلق بالبعد الدولي للتطورات، فإن الملاحظة التي تعتبر جوهرية في سياق هذه الورقة هي أن تركيا -التي دعمت وحدها تقريبًا بشكل عملي حكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة والتي تم التخلي عنها وتُركت لتواجه عدوان حفتر الذي حصل على دعم من أطراف عدة إقليمية ودولية- تبدو من أهم الرابحين في سياق معركة طرابلس، وأن قرار حكومة الوفاق سيراعي وجهة النظر التركية في تحديد المسار سواء بالمغامرة في دعم التقدم العسكري المحدود أو التعامل بهدوء لتحقيق تسوية مقبولة(2).
تستعرض هذه الورقة القراءة التركية لردود الأفعال المعارضة لدورها في ليبيا والتي هددت بعدم السماح لتركيا بمواصلة دورها المتصاعد سواء من مصر أو فرنسا أو روسيا وخاصة بعد تحديد منطقة سرت/الجفرة خطًّا أحمر، ومدى جدية هذه المواقف من وجهة النظر التركية، وتقف الورقة على سيناريوهات الدور التركي من خلال مسارات معركة سرت، وترى تقدم حكومة الوفاق نحوها أصبح أكثر تعقيدًا في ظل مراكمة القوة ووضع العراقيل من الأطراف المعارضة، وفي ظل الضعف الأوروبي والتردد الأميركي مما يشي باستمرار الوضع الحالي ما لم يتم التوصل لتوافق تركي-روسي باعتبارهما أكثر طرفين خارجيين لديهما قدرة على تحديد مسار المرحلة القادمة.
ما يخشاه داعمو حفتر
يخشى داعمو حفتر من تحوُّل حكومة الوفاق من وضع دفاعي إلى وضع هجومي بعد هزيمة حليفهم في طرابلس ومحيطها وانسحاب قواته شرقًا، وبالرغم من استياء داعمي حفتر من أدائه فقد كان لديهم خشية واضحة (روسيا، فرنسا، مصر، الإمارات) من تلقيهم مزيدًا من الخسائر، ولذلك سعوا لإيقاف تقدم حكومة الوفاق نحو سرت، ولتثبيت الوضع الحالي على الأقل، وجرى فرض وقف إطلاق نار بشكل سريع قبل سيطرة حكومة الوفاق على سرت.
وقد أسهم في التحرك السريع للجهات الداعمة لحفتر ما تمثله سرت من أهمية لكافة الأطراف حيث إن سيطرة حكومة الوفاق عليها تفتح الطريق للسيطرة على الموانئ النفطية القريبة منها وتزيد من رغبتها في استعادة منطقة الهلال النفطي التي تمثل 60% من صادرات ليبيا النفطية، بالإضافة إلى أن إرهاصات السيطرة عليها جعلت بعض القبائل تبدأ في التحول من تأييد حفتر إلى تأييد حكومة الوفاق. وسيجعل بقاء حفتر مسيطرًا عليها إمكانية تكرار هجماته على طرابلس حاضرة.
وتعتبر سرت التي تقع على البحر المتوسط، حسب بعض المصادر التركية، مهمة لفرنسا كنقطة تجميع مهمة للموارد (الذهب واليورانيوم) التي تحصل عليها فرنسا من مالي وتشاد والنيجر، فضلًا عن النفط الليبي(3)، وهي أيضًا تصلح لإنشاء قاعدة بحرية على غرار قاعدة حميميم الجوية الروسية فضلًا عن أنها تقع شمال قاعدة الجفرة الجوية التي توجد فيها حاليًّا ميليشيات فاغنر التي انسحبت من محاور القتال في محيط طرابلس بالإضافة إلى 14 طائرة حربية روسية أرسلتها موسكو مؤخرًا، حسب الادعاءات الأميركية، ومن المرجح أن روسيا ترغب فيها كقاعدة دائمة لوجودها في شمال إفريقيا، أو على الأقل للحفاظ على موطئ قدم في ليبيا وعلى الجبهة الجنوبية لأوروبا (الناتو) الذي نشر درعًا صاروخية على حدود روسيا الغربية(4).
مبادرات وقف إطلاق النار
بدأت محاولات إنقاذ حفتر عبر الدعوة لوقف إطلاق النار، وترجمت مصر رغبة روسيا وفرنسا في إنقاذ حفتر من خلال “إعلان القاهرة” والذي تضمن مقترحًا بوقف لإطلاق النار يبدأ من 8 يونيو/حزيران 2020 ودعوة للالتزام بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا والعمل على استكمال مسار أعمال اللجنة العسكرية 5+5 برعاية الأمم المتحدة(5)، وضمان تمثيل عادل لأقاليم ليبيا الثلاث في مجلس رئاسي ينتخبه الشعب تحت إشراف الأمم المتحدة، وأيدت كل من روسيا وفرنسا والإمارات والسعودية والأردن، مباشرة، إعلان القاهرة(6)، ولكن حكومة الوفاق لم تقبل بالمبادرة المصرية بادعاء أنها “تضمنت مغالطات ولم تُشر من قريب أو بعيد للاتفاق السياسي”. كما أن الإعلان عنها بوجود حفتر فقط لم يكن من المتوقع معه القبول بها(7).
من جهتها، ساندت تركيا موقف حكومة الوفاق الرافض للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار واعتبرت أن المبادرة “وُلدت ميتة” وأنها محاولة غير موثوقة لكسب الوقت تهدف لإنقاذ حفتر الذي رفض توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في موسكو وبرلين، وبالتالي لا مكان له في أي اتفاق مستقبلي، ومسار فردي لا حاجة له في ظل وجود مسارات عاملة مثل جهود الأمم المتحدة ومؤتمر برلين(8). وترى تركيا أن الوقف الدائم لإطلاق النار يجب أن يكون تحت مظلة الأمم المتحدة.
وبالطبع، لا يبدو الموقف التركي من المبادرة المصرية مستغربًا بالنظر للعلاقات المتدهورة بين البلدين، ولعل يوم إعلان المبادرة شهد ملاسنات بين البلدين حيث ردَّ الناطق باسم وزارة الخارجية التركية، حامي أقصوي، على ما قاله وزير الخارجية المصري، سامح شكري، خلال اجتماع عبر الإنترنت، لوزراء خارجية المجموعة المصغرة لمكافحة تنظيم الدولة، وجاء فيه أن “تركيا تجنِّد وتنقل آلاف الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا”(9).
ومع ذلك، انفتحت تركيا على المباحثات مع روسيا، المنخرطة في الملف الليبي والتي لا تزال تحافظ على علاقة مع حكومة الوفاق، وكانت أنقرة وموسكو حاولتا التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في يناير/كانون الثاني 2020، لكن حفتر رفض التوقيع عليه، وبعد التطورات الأخيرة وإعلان القاهرة كان من المقرر أن يصل وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان، يوم 14 يونيو/حزيران 2020، إلى أنقرة لنقاش الملف الليبي، ويبدو أنه كان من المتوقع في أنقرة أن تطرح موسكو شيئًا مختلفًا عن الذي عبَّرت عنه القاهرة، ولكن قبل وصول طائرة الوزراء الروس إلى الأجواء التركية جرى تأجيل الاجتماع، وذلك لأن مساعد وزير الخارجية الروسي الذي قدم ضمن الوفد التحضيري الروسي قد قدَّم مقترحًا يدعم “إعلان القاهرة”، الذي أُعلن في 6 يونيو/حزيران 2020، وقد رفضت أنقرة المقترح بشكل قاطع، مما أدى إلى إلغاء الزيارة التي أصبحت بلا طائل في ظل الرفض التركي القاطع.
وأعاد الطرف التركي تذكير نظيره الروسي بموقف حفتر عندما رفض التوقيع على وقف إطلاق النار في موسكو وفي برلين، واتفاق الطرفين على استمرار المباحثات، ومع أن وزير الخارجية التركي أشار خلال مؤتمر مع نظيره الإيراني إلى أن هناك اختلافًا في الآراء مع روسيا ولكن لا توجد أزمة، وأن قرار تأجيل اللقاء اتُّخذ بشكل مشترك(10) إلا أن عدم إتمام اللقاء بين الوزراء الروس والأتراك أشار إلى تزايد الخلاف وتعقيد المشهد ووصول المباحثات إلى نقطة انغلاق.
مع عزم أطراف داخل حكومة الوفاق استمرار عملية “بركان الغضب” في التوجه نحو مدينة سرت لبسط نفوذ الحكومة عليها وللسيطرة على قاعدة الجفرة الاستراتيجية لم تُخْفِ تركيا دعمها لهذا الخيار نظريًّا، ولكن اعتبار روسيا بالتحديد لمدينة سرت خطًّا أحمر وإرسالها تعزيزات عسكرية وتحرك ميليشيات فاغنر بكثافة في سرت والجفرة كان عائقًا واضحًا أمام دعم تركيا لهذا الخيار عمليًّا. وبينما تطور الموقف المصري من المطالبة بوقف إطلاق النار إلى التهديد بالتدخل المباشر وتسليح العشائر الليبية إلا أن العامل الروسي يعتبر أكثر حضورًا في قرار دخول حكومة الوفاق لسرت.
قراءة الموقف المصري
يبدو الموقف التركي الرسمي تجاه مصر عقلانيًّا من زاويتين: الأولى: من خلال اعتبار مصر فاعلًا مهمًّا في معادلة ليبيا، وأن قلق مصر بشأن أمنها على الحدود مع ليبيا هو حق مشروع ومتفهَّم في أنقرة(11)، لكن ذلك لا يمنع من الاعتقاد بخطأ سياسة مصر في دعم حفتر وأن عليها إدارة مصالحها مع حكومة الوفاق. أما فيما يتعلق بتلويح مصر بالتدخل المباشر فبالرغم من وجود قناعة تركية بوجود عوائق حقيقية أمام تنفيذ مصر لهذه التهديدات (مثل تجربة مصر الأمنية في سيناء وموضوع سد النهضة والأوضاع الاقتصادية في مصر وغيرها) لم تستهن تركيا بموقف القاهرة وحرصت على عدم الانجرار لمربع تبادل التهديدات.
اعتبرت تركيا أن الخطوة المصرية جاءت بدعم وبضغط من الرياض وأبوظبي وباريس على القاهرة وأكثر تعبيرًا عن مواقف الأطراف الأخرى، مع سوْق عبارات تنزع فتيل التوتر من قبيل أن القاهرة يمكن أن تستفيد من الدور التركي في تحقيق الاستقرار في جارتها ليبيا وفي المكاسب البحرية التي تقدمها التوافقات مع تركيا بدلًا من التوافق مع اليونان. وبشكل عام، لا تريد تركيا الدخول في مواجهة مع مصر فيما يتعلق بليبيا، ويطرح الأتراك أسئلة حول مصلحة مصر في المواجهة مع تركيا في قضية ليبيا؛ حيث إن الخيارات التي تدعمها تركيا في ليبيا لا تضر بمصر بل على العكس ستؤدي لاستقرار على حدود مصر، وستضيف مساحات أكبر لمصر في منطقتها الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط في حال توافق البلدان(12).
ولهذا، فالمرجح ألا تتجاوب أنقرة مع التهديدات المصرية، وستحاول احتواءها، ولن تنساق للمواجهة على الأرجح وبالنظر في الدوائر الأوسع فعلى المستوى الدولي سيكون الموقف الأميركي الذي تنسق تركيا خطواتها معه ضاغطًا على عدم تدخل مصر، وإقليميًّا، وبالنظر إلى التوازنات في شمال إفريقيا فإن تركيا مدركة أيضًا أن الجزائر لن تقبل بتدخل مصري في ليبيا وستغادر حياديتها وستدعم حكومة الوفاق بشكل قوي في حال تدخلت مصر.
ويمكن الاستدلال هنا أيضًا بما قاله حليف حزب العدالة والتنمية وزعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، الذي اجتمع مع أردوغان مؤخرًا؛ حيث علَّق على التصريحات المصرية: “أملُنا أن يمارس السيسي سياسة عقلانية ومسؤولة وحكيمة وأن يتجنب الاستفزاز والتلقين الأجنبي، وإذا حدث هذا سوف تكون التطورات باتجاه الاستقرار والسلام”. وقد انتقد بهتشلي سياسة السعودية والإمارات بسبب وقوفهما مع حفتر ضد الحكومة الشرعية واصفًا حفتر “بالإرهابي والانقلابي والقرصان”، وأن “تركيا ستستمر بالوفاء بتعهداتها في ليبيا وستبقى متيقظة لكل المؤامرات”(13).
تبلور الموقف الروسي
بالرغم من أن هزيمة حفتر تعد تقويضًا لطموحات روسيا في ليبيا فإن تركيا تعتبر أن روسيا لم تحرق الجسور مع حكومة الوفاق وأنها مستعدة للتعامل معها من حيث المبدأ، وستكون أكثر قربًا في حال حصلت على ضمانات لمصالحها، وأن موسكو بالأصل مستاءة من حفتر وعثراته السياسية، وقد انتقدت الخارجية الروسية إعلان حفتر لنفسه حاكمًا للبلاد، ولهذا، فإن أنقرة تحث طرابلس على تنفيس مخاوف موسكو على مصالحها في ليبيا من جهة وعلى إضعاف آمال موسكو في التعويل على حفتر من خلال رفض الجلوس معه.
ومع أن دولًا أخرى تحث روسيا على الوقوف وراء حفتر فإن أنقرة مدركة أن مشروع موسكو في ليبيا يتجاوز حفتر، وأن لديها رغبة في تكريس وجودها في ليبيا، وهي ربما الآن تبحث عن بديل لحفتر قبل أن تضطر للاعتماد على العلاقة مع حكومة الوفاق، وليس أدلَّ على ذلك من مواصلة روسيا نقل الدعم العسكري إلى سرت؛ فبعد التقارير الأميركية عن نقل 14 مقاتلة عسكرية روسية إلى قاعدة الجفرة في نهاية مايو/أيار 2020، أفادت مصادر ليبية برصد هبوط أكثر من 11 طائرة روسية تقل أسلحة ومرتزقة سوريين في مطار سرت غربي البلاد، صباح 26 يونيو/حزيران الجاري(14). كما وردت تقارير أخرى عن سيطرة ميليشيات فاغنر على حقل الشرارة النفطي.
تحاول أنقرة فتح الباب أمام موسكو لتحظى ببعض المكاسب سواء بمجال الطاقة أو غيره لكنها في الوقت ذاته تستقوي بالجبهة الغربية (واشنطن وبرلين..) على روسيا حيث تحاول أنقرة إقناع واشنطن والعواصم الأوروبية بالتدخل لعدم تكرار خطأ السياسة السلبية في سوريا في ليبيا والتي سمحت لروسيا بتكريس وجودها، وتراهن أنقرة في هذا السياق على كل من واشنطن وبرلين بالدرجة الأولى، ومع ذلك تصطدم أنقرة في هذا السياق بعدة عوائق وهي الموقف الفرنسي المناوئ لها، والضعف الأوروبي على الفعل، والتردد الأميركي. ويبدو أن المقاربة المفضلة من تركيا تجاه روسيا في ليبيا هي حصول موسكو على مكاسب اقتصادية وفي مجال الطاقة ورفض تكريس وجودها العسكري عبر قواعد عسكرية. وليس واضحًا ما إذا كان سلوك موسكو حتى الآن يهدف إلى تحقيق مكاسب أكبر في المباحثات أم يهدف إلى وجود دائم في الساحل الإفريقي، مع ترجيح للخيار الأول، وبالطبع فإن أنقرة لا تستطيع أن تمنع الخيار الثاني وحدها. كما أن أنقرة متخوفة من لجوء موسكو لعمل صداع جديد لأنقرة في إدلب.
الموقف الفرنسي
كانت تركيا متحفظة على تدخل الناتو في ليبيا والذي كان مدفوعًا بجهد فرنسي في مارس/آذار 2011، ومنذ تأسيس حكومة الوفاق، في 2015، كان الموقف المعلن لفرنسا هو تأييد شرعية حكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة لكن الموقف الحقيقي والفعلي كان هو دعم حفتر بشكل كبير مما جعل فرنسا وتركيا في جبهتين مختلفتين في ليبيا، ولا يقتصر الخلاف الفرنسي مع تركيا على الملف الليبي فهناك خلاف في وجهات النظر حول سوريا وقبرص وشرق المتوسط، والعلاقة مع حزب العمال وقضية الأرمن وملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، إلا أن فرنسا صعَّدت مؤخرًا من موقفها تجاه الدور التركي في ليبيا بشكل كبير، الذي تكرَّس بعد اتفاق أمني وبحري مع حكومة الوفاق والذي بدا أنه سيتحول إلى جني المزيد من المكاسب بعد إحباط هجوم حفتر على طرابلس كانت فرنسا تمني بها نفسها في حال نجح حفتر.
واعتبرت باريس تدخل أنقرة في ليبيا غير مقبول وأنها لن تسمح به، وبالتأكيد لم يكن التفاهم التركي/الإيطالي في ليبيا مريحًا لباريس، وقد عبَّر الرئيس الفرنسي بشكل واضح عن أن تركيا تمارس “لعبة خطيرة” في ليبيا تتعارض مع التزاماتها في برلين، فيما بدت فرنسا تناور بشكل أكثر نشاطًا مع مصر وتونس لمنع تركيا من التأثير على الأخيرة خصوصًا فيما يتعلق بالتطورات في ليبيا فقد ذهب ماكرون إلى التواصل مع كل من بوتين وترامب لتحجيم الدور التركي.
وفيما وراء الدبلوماسية، انتقل التوتر الفرنسي-التركي من التصريحات المتبادلة إلى المناوشات العملية حيث أعلنت فرنسا عن تعرض إحدى سفنها لعمل عدواني من زوارق بحرية تركية في سياق منع البحرية التركية لسفن فرنسية من تفتيش سفينة متجهة إلى الشواطئ الليبية، كما اعتقلت أنقرة خلال الأسابيع الأخيرة خلية تجسس مكونة من أربعة أشخاص أحدهم يعمل موظفًا في القنصلية الفرنسية بتهمة التجسس لصالح المخابرات الفرنسية، كما دعت باريس لاجتماعات لنقاش الدور التركي وعلاقة أنقرة مع الاتحاد الأوروبي في الناتو والاتحاد الأوروبي(15).
يهدد وجود تركيا الصاعد في ليبيا والمنطقة عبر تحالفها مع حكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة فرنسا في عدة مجالات وهي نفوذها التاريخي في ساحل شمال إفريقيا ومصالحها في إفريقيا عمومًا، ويكرِّس تركيا كقوة منافسة في البحر المتوسط، ويحرم أو يخفض حصص فرنسا في قطاع الطاقة في المتوسط ومكاسبها الاقتصادية في ليبيا.
ويبدو أن الغضب الفرنسي المتزايد بعد هزيمة حفتر يأتي بسبب تزايد قلقها من الصعود التركي الذي يؤثر على مصالحها ومن عدم قدرتها على تحقيق موقف أوروبي مساند لها من جهة ضد تركيا التي يبدو أنها مستندة لتفويض أميركي في ليبيا(16) (ذهاب وفد إيطالي وأميركي لطرابلس بعد الوفد التركي)، وبسبب خوفها من أي توافق تركي/روسي محتمل على تقاسم إدارة ملف الطاقة في ليبيا سواء في حقول النفط أو التنقيب عن الغاز في سواحل ليبيا. كما أن وجود تركيا وروسيا -حتى لو كانتا مختلفتين- يحرمها من تنفيذ مخططاتها بوجود عملي في شمال إفريقيا ويقلِّل من هوامش تأثيرها في المنطقة.
تحاول أنقرة أن تظهر سياسة باريس الحالية الداعمة لحفتر على أنها عامل أساسي في تكريس الوجود الروسي في ليبيا باصطفافها مع حفتر، وترجِّح أنقرة أن الدول الأوروبية المستاءة من الموقف الفرنسي لن تتخذ خطوات عملية داعمة لفرنسا ضد تركيا في ليبيا لكن هذا ليس كافيًا لأنقرة فهي تحاول حثَّ هذه الدول -وخاصة برلين- لتكون أكثر شجاعة وتعمل على كبح الموقف الفرنسي الذي لا يخدم المصلحة الأوروبية والمعارض لدور تركيا في ليبيا(17). ومن جانبها، تحاول فرنسا إظهار صعود تركيا في ليبيا وتفاهمها المحتمل مع روسيا على أنه مقدمة لتغيير توازن القوى الموجود. ولكن ما من شك في أن الموقف الفرنسي المعارض لتركيا يضعف موقف الأخيرة أمام روسيا التي يعتبر موقفها أقوى المواقف في الجبهة المعارضة لتقدم حكومة الوفاق المدعومة تركيًّا نحو سرت والجفرة.
خاتمة وسيناريوهات
بعد السيطرة على ترهونة بدت حكومة الوفاق وبالتأكيد الداعم الأساسي لها، تركيا، تسير باتجاه السيطرة على سرت لأن بقاء قوات حفتر فيها يعني بقاء طرابلس تحت رحمة معسكره مرة أخرى، بالإضافة إلى حرمان حكومة الوفاق من إدارة أهم مصادر الطاقة في البلاد(18)، وبدا حفتر مهزومًا يعاني من خلافات في معسكره ومع داعميه الخارجيين ولهذا تم رفض مطالب وقف إطلاق النار. ووفق سيناريو سيطرة حكومة الوفاق على سرت، كان من المنطقي أن تبدأ عملية تهدئة مخاوف الأطراف الداعمة لحفتر على مصالحها، ومنها مباحثات بين تركيا وروسيا لتأمين دخول حكومة الوفاق بدون صعوبات كبيرة، ليتبع ذلك عملية مباحثات مكثفة لمستقبل الحل السياسي برعاية الأمم المتحدة وامتدادًا لمؤتمر برلين.
وينسجم هذا مع وجهة نظر أنقرة بأن السيطرة على سرت، ورفض جلوس حفتر على الطاولة سيسهِّل الاتفاق السياسي، وسيحث داعمي حفتر على التخلي عنه(19)، ويدعم هذا السيناريو ما قاله مصدر تركي مسؤول: “نعلم أن الغاية من مقترح وقف إطلاق النار هي كسب الوقت واستعادة الأماكن التي خسروها. ولذلك السبب لا نتوقع توقف العمليات العسكرية. وإننا ندعم فكرة مواصلة العمليات حتى إخراج حفتر تمامًا من المعادلة”(20).
بالرغم من التهديدات المصرية واعتبار سرت خطًّا أحمر، رجَّحت أنقرة أن كافة الأطراف ستتجنب المواجهة المباشرة إلا أن المفارقة هنا هي أن كافة الأطراف تدرك أن القوة على الأرض ستكون مفيدة على طاولة المفاوضات، وهذا ما يجعل الاستهانة بأي موقف غير واردة، ويُعتبر الموقفان، التركي والروسي، أساسيين في تثبيت أي سيناريو أو إفشاله إلا أن تنسيق أنقرة المتزايد مع واشنطن في ليبيا ووجود أطراف أخرى معارضة للموقف التركي بما يتجاوز المصالح الاقتصادية مثل فرنسا ومصر والإمارات، يقلِّل من فرص التفاهم بين أنقرة وموسكو. كما أن العجز الأوروبي والسياسة الأميركية في عدم التدخل تجعل موسكو أكثر جرأة.
في ذات السياق أيضًا، بدت حكومة الوفاق، ومن ورائها تركيا، مترددة إزاء التقدم نحو سرت بالرغم من إعلان حكومة الوفاق نيتها بسط نفوذها على كامل أراضي ليبيا، وقد بدت حكومة الوفاق وربما تركيا غير راغبة في المواجهة مع قوات فاغنر التي عززت من وجودها في سرت والجفرة وسيطرت مؤخرًا على حقل الشرارة النفطي، والتي تعني المواجهة مع روسيا، وهذا الموقف المعقد سيزيد من التوتر بين تركيا والأطراف الداعمة لحفتر، وكلما تأخرت حكومة الوفاق في السيطرة على سرت فإن هذا يخدم موقف حفتر وداعميه، وسيثبِّت سيناريو استمرار الوضع الحالي من الصراع وربما تتأثر طرابلس سلبًا في ظل تهديدات حفتر بضرب مصراتة. كما أن ملف تحكم حكومة الوفاق بعائدات النفط الصادر عن مناطق الشرق سيكون موضع شك.
يبقى السيناريو الآخر وهو الإقدام على تحرير سرت بالقوة، وهذا سيكون خيارًا مكلفًا بالنظر إلى المعدات العسكرية التي تم حشدها في المدينة من حلفاء حفتر وخاصة روسيا، وإلى توقع استماتة حفتر في الدفاع عنها للبقاء محافظًا على الموانئ النفطية خلف سرت ومع أن حكومة الوفاق أعلنت عن تصميمها على السيطرة على سرت لكن روسيا صعَّبت ذلك عمليًّا وبالنظر أيضًا إلى أن حكومة الوفاق ليس بالضرورة أن يكون موقفها الهجومي حاسمًا في تحرير سرت كما كانت في طرابلس عندما كان بقاؤها مهددًا.
يبدو أن تمكن حكومة الوفاق من السيطرة على سرت صعب ومعقد عمليًّا وسيحتاج لمباحثات طويلة وشاقة، وبالتالي فإن المرجح في المدى المنظور بقاء الوضع على ما هو عليه والاستمرار في المباحثات ومراكمة القوة. ويعتبر استمرار هذا الوضع أحد العوامل الممهدة لفكرة تقسيم ليبيا والتي لا تدعمها حتى الآن مقاربات الأمم المتحدة ولا حتى رؤى الأطراف سواء حكومة الوفاق أو حتى حفتر، ولكن قد تعمل أطراف إقليمية على التمهيد لذلك. ويربك الموقف الروسي موقف تركيا وحكومة الوفاق فالدخول لسرت قد يفتح توترات بين أنقرة وروسيا تتجاوز ليبيا والتأخير سيفقد زخم هزيمة حفتر في طرابلس ويقوِّي موقف داعميه. ومع ذلك، فإن الحراك العسكري لكل الأطراف يعتبر محاولة منها للحفاظ على دور سياسي في المفاوضات.
محمود سمير الرنتيسي
مركز الجزيرة للدراسات